الخميس، 15 مايو 2008

خُلق الرجولة

خُلق الرجولة بين العاملين للإسلام نماذج مشرقة وفريدة لرجال ونساء من الصحابة ضربوا أروع الأمثلة في رجولتهم
آثاره عظيمة.. ويستوي فيه الرجال والنساء
كم نحن في حاجة إلى هذا الخُلق الكريم، خُلق الرجولة، لنتأسى به، ونعمل به، ونربي أنفسنا عليه. والرجولة التي أعنيها: هي الخلق وليست النوع. فهي تعني الشجاعة والإقدام والمروءة والأمانة والوفاء والإخلاص وسلامة الصدر والإخاء والعلم وعلو الهمة والعقل... إلخ، ولا أعني بها الذكورة، وذلك لأن هذا الخلق ليس مقصوراً على الرجال الذكور دون غيرهم، فهو يشمل معهم أيضاً النساء، حتى الصبيان.إن العمل الإسلامي في أمسِّ الحاجة لهذا الخلق العظيم لتحقيق أهدافه السامية التي لا تتحقق إلا بقوة الرجال الصادقين، وعزائم الرجال المخلصين... فالدعوات لا تقوم إلا على أكتاف وعزائم الرجال، ولا تقوم على الضعفاء والمترخصين.من هنا تبرز أهمية هذا الخلق النبيل، وأهمية إثرائه في نفوس جميع عناصر العمل الإسلامي: من قيادة وجنود ومناهج تحث على هذا الخلق.يقول الله عزَّ وجلَّ: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) (الأحزاب). فهؤلاء الرجال هم الصنف الذي سيحمل أعباء العمل والدعوة إلى الله من غير كلل ولا ملل، وهذا الصنف هو الذي يجب أن نعمل جاهدين على إيجاده وإنشائه، لأنه الوقود الدافع للعمل ولأعبائه الجسيمة، ولأهدافه العظيمة.ولنا في موقف النبي الكريم ص حينما رفض الدنيا بأسرها عندما جاءته صاغرة على يدِ عَمِّه،، إذ عرضوا عليه أن يجعلوه رئيساً عليهم، وجمعوا له من مالهم حتى يصير أغناهم، ويزوجوه أجمل بناتهم، فرفض المصطفى الكريم ص هذا كله في رجولة منقطعة النظير، ليُعطي لنا درساً عظيماً في ذلك. إن الأمر هنا لا يقبل ليناً ولا تميعاً؛ فإما إفراد الله بالعبادة أو إشراك أحد من عباده معه، فكان الرد الحاسم القاطع من النبي ص بالرفض.

نماذج من رجولة الصحابة
في موقف سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه شاهد جَليّ على الرجولة المرجوة والمنشودة.. إذ كان مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلاً ويدفعه للصبيان يلعبون به وهو يقول: أحد، أحد. لم يشغله ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء، وهي الرمل الشديد الحرارة والذي لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُوضع على صدره، ثم يقول له: لاتزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللاَّت والعزى، فيقول: أحد، أحد. "نور اليقين".فأي رجولة تلك وأي ثبات وأي إخلاص هذا؟!إنه يتحمل كل هذا العذاب الرهيب في سبيل عقيدته، ولا يشغله عن توحيد الله فهو لا يزال يردد كلمة التوحيد: "أحد، أحد"، في تحد واضح لأمية بن خلف! لقد انتصر بلال بإيمانه الراسخ وثقته في نصر الله، وهو تحت الصخرة يلاقي شتى أنواع التعذيب، انتصر برجولته، وفي المقابل انهزم الكفر برغم بطشه وجبروته؛ لأنه لم يستطع أن ينال من عزيمة الرجال الذين ربَّاهم المصطفى ص، فهكذا ينبغي أن يكون الرجال من أصحاب الدعوات. وفي مواقف السيرة والتاريخ الكثير من هذه النماذج الخالدة التي سُطِّرت بأحرف من نور لتضيء لنا الطريق للعزة والرجولة.نساء ولكن رجال وقت الشدة خلق الرجولة ليس مقصوراً على الذكور فقط كما أسلفت ولكن تتحلى به النساء أيضاً، وهناك أمثلة عدة في هذا المجال تؤكد هذا المعنى. فماذا نسمي خُلق السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في أثناء الهجرة وهي تتحمل الصعاب والمشقات والأخطار من حولها لكي تُوصل الطعام للنبي ص وأبيها في الغار، غير آبهة بما قد يصيبها لو انكشف أمرها من عذاب، وتنكيل؟هكذا ينبغي أن تكون المسلمة على أتم الاستعداد للتضحية وقت الضرورة.وفي هذا المجال لا يمكن إغفال دور السيدة أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها فهي منذ مبايعتها للرسول ص في العقبة، وهي في جهاد مستمر، يقول ابن حجر في "الإصابة ج4 ص457": "... وشهدت "العقبة" وبايعت ليلتئذ، ثم شهدت "أحداً" و"الحديبية" و"خيبر" و"القضية" (عمرة القضاء) و"الفتح" و"حنيناً" و... "اليمامة".وتقول "أم سعيد" بنت "سعد بن الربيع" دخلت عليها أي على "أم عمارة" فقلت: حدثيني خبرك يوم "أحد" فقالت: خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله ص وهو في أصحابه، والريح والدولة للمسلمين، فلمَّا انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ص فجعلت أباشر القتل، وأذب عن رسول الله ص بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إليَّ الجراحة، تقول أم سعيد: رأيت على عاتقها جرحاً له غور أجوف".يقول الأستاذ محمد قطب معلقاً: "عندئذ ألقت أم عمارة السقاء وثارت حمية إيمانها تغلي كالمرجل في كينونتها الأنثوية، واختطفت سيفاً من يد أحد الهاربين الفارين، وقوساً ونبلاً ووقفت تدافع عن رسول الله ص" (نساء حول الرسول).وحتى عندما حذرها رسول الله ص من اقتراب عدو الله "ابن قمئة" منها وحذَّر ابنها ليدرك أمه، وسمعته فقالت: يا رسول الله... ادع الله أن نكون رفقاءك في الجنة.يقول الأستاذ محمد قطب: "إنه غاية ما تتمناه في الدنيا والآخرة، أنها لا تريد سلامة في بدن بدون روح، ولا غنى ولاجاهاً ولا شيئاً من أسباب الحياة، فقط تريد أن تكون من أهل الجنة وبرفقة رسول الله ص، وهكذا تكون حقيقة الإيمان، ونصاعة اليقين، ونقاء الإسلام، نقولها لأنفسنا ولأهلينا ولكل العاملين في حقل الدعوة والصحوة تَذكرة وعِبرة" (المرجع السابق).

الخنساء وأبناؤها الأربعة
كذلك نلمس خلق الرجولة في موقف الخنساء رضي الله عنها حين قُتل أبناؤها الأربعة في سبيل الله فلم تجزع، ولم تندب حظها، وقالت مقولتها الشهيرة: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم جميعاً".هذه النتيجة جاءت محصلة مقدمة هي كلمتها الرائعة لأبنائها قبل المعركة!!: "يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غيَّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقيةخير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا \صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون 200 (آل عمران).، فإن أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقها، واضطرمت لظيً على سياقها، وحللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة".فليزنْ كل منَّا هذه الكلمات بميزان الذهب ليرى عظمة ورجولة الخنساء رضي الله عنها.

صفية... وسمية
ويبرز أيضاً موقف السيدة صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها يوم الخندق عندما رقى إنسان من اليهود فوق الحصن حتى أطل عليهم، فقامت إليه فضربته، وفي بعض الروايات حتى قطعت رأسه حتى ظن اليهود أن هناك الكثير من الرجال. كما أنها أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين.كما لا ننسى موقف المرأة التي ردت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الفاروق في المهابة، ومع ذلك وقفت في شجاعة لترد أمير المؤمنين وينزل على رأيها، ويقول: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".وهناك موقف السيدة سُمية بنت خياط أول شهيدة في الإسلام التي صبرت وصابرت، وأبلت بلاء حسناً في رجولة منقطعة النظير حتى لقيت ربها شهيدة في سبيله غير مترخصة ولا واهنة.وفي عصرنا الحديث لا يمكن إغفال دور المجاهدة الفاضلة السيدة زينب الغزالي التي ضربت أروع المثل في الصبر والثبات لتعيد للأذهان أمجاد من سبقوها من الصحابيات الجليلات.

رجولة الغلمان
هذا الخلق يشمل أيضاً الصبيان والغلمان، ولنا في موقف سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه المثل والقدوة في ذلك، حين نام في فراش النبي ص ليلة الهجرة وهو صبي غير عابيء بما قد يصيبه عند انكشاف أمره، لكنه موقف تهون في سبيله الأرواح، فالرجولة عمل وموقف، ولا تتقيد بسن، ولا بجنس.وفي موقف معاذ ومعوذ "ابنا عفراء" دليل آخر على رجولة الصبيان، روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه : إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، وماذا تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله!قال: فما سرني أنِّي بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء" (صحيح البخاري باب: فضل من شهد بدر حديث رقم 3766).في هذا السياق لابد من ذكر أجلى أمثلة العصر الحديث والمتمثلة في "أطفال الحجارة" في فلسطين الحبيبة، وإن كان هذا الاسم هو ما أطلقته عليهم وسائل الإعلام في أثناء الانتفاضة المباركة، وإن كانوا حديثي السن إلا أنهم رجال في الموقف بل استطاعوا زلزلة كيان العدو الصهيوني الغاصب بقوة إيمانهم، وفطرتهم النقية، وفعلوا ما لم يستطع فعله أشباه الرجال وصمدوا وواجهوا الموت بصدور مفتوحة مسلحين بقوة إيمانهم، وواجهوا بحجارتهم أقوى أسلحة العدو الحديث، فلم تلن لهم قناة ولم يهن لهم عزم، وجاهدوا جهاد الرجال والأبطال.
مواقف معاصرة
في تاريخنا الحديث ضرب بعض الدعاةالمثل لهذا الخلق الكريم، مما أعاد للأذهان أمجاد أسلافهم من الصحابة والتابعين، فهاهو ذا الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله يقف في وجه شتى أنواع التعذيب والإهانة داخل السجن الحربي وبرغم مرضه وكبر سنه يقول كلمة الحق للحاكم الجائر: جمال عبدالناصر مرات ومرات، لم يرهبه، ولم يهرب سجنه ولا زبانيته ولا حكمه عليه وعلى مجموعة من خيرة الإخوان بالإعدام، ومجموعات أُخرى بأحكام قاسية.ولاننسى موقف الشهيد سيد قطب يرحمه الله حين رفض التوقيع على رسالة تأييد لنظام الحكم من أجل الخروج من السجن، وقال كلمته الخالدة: "إن أصبع السبابة الذي يشهد ألا إله إلا الله يأبى أن ينحني لطاغية".ففضَّل يرحمه الله الاستشهاد في سبيل الله على تأييد الظلم والطغيان، وهذا موقف عصيب لا يصمد له الكثيرون وصدق يرحمه الله حين قال: "إن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكناً إلى الله مطمئناً إلى حماه مهما أُوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله".والمتابع لتاريخ جماعةالإخوان المسلمين والراصد لما تعرضوا له من محن مختلفة بدءاً من الاعتقال حتى حبل المشنقة، ومروراً بالتعذيب والمحاكم العسكرية، يرى نماذج من الرجولة كُتبت في التاريخ بأحرف من نور، وما كان يتوقع أكثر المتابعين تفاؤلاً أن تقوم للإخوان قائمة بعد فترة الحكم الناصري البغيضة، فما إن خرج الإخوان من السجون حتى بدؤوا في نشر دعوتهم بين الناس، حتى غطت معظم أنحاء العالم، وذلك لثقتهم في نصر الله، وفي منهجهم المستمد من القرآن والسنة وتربيتهم الفريدة، ولتحليهم بخلق الرجولة الحقة الذي عزَّ أن يوجد الآن.وما كان هذا ليتأتى إلا بهمم وبعزائم الرجال، الذين ضحوا بكل ما لديهم حتى بأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله.

ليست هناك تعليقات: