الخميس، 15 مايو 2008

الثبات.. طريق رجال الدعوة



بقلم: وليد شلبي
إذا كان الابتلاء سنةً من سنن الدعوات التي قدرها الله سبحانه وتعالى على الدعاة والمصلحين والسائرين على دربهم، فإن الثبات على الابتلاء شيمة من شيم الدعاة المخلصين، ويمحص الله سبحانه وتعالى به بين المؤمنين الصابرين وغيرهم من أدعياء الإيمان. لذا فإن السائر في طريق الدعوة إلى الله لا بد له من حال خاص مع الله في الرخاء ليعينه على الثبات في المحن والشدائد.

الثبات لغة: ثبت الشيء يثبت ثباتًا وثبوتًا فهو ثابت، وثبَت، وثبْت، ورجل ثبت: متثبت في أموره، وثبت الرجل: صار ثبتًا.

والثبات: الاستقامة على الهدى، والتمسك بالتقى، وإلجام النفس، وقسرها على سلوك طريق الحق والخير، وعدم الالتفات إلى صوارف الهوى والشيطان، ونوازع النفس والطغيان، مع سرعة الأوبة والتوبة حال ملابسة الإثم أو الركون إلى الدنيا.

الثبات دعويًّا: هو الثبات على طريق الدعوة إلى الله وتحمل ما يحدث فيه من محن وابتلاءات بقوة وتجرد ورضاء بما ينجم عنه من نتائج.

فالإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة لسبر غوره وإدراك مداه.. فالإيمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسر.. أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه المحن وتصدعه.. وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ..﴾.

والثبات في وقت الشدة مظهر من مظاهر عمق الإيمان ودليل رسوخه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾

(العنكبوت) وكلما تشتد المحنة في حياة الدعوة، وكلما علا الطغيان، واشتد التضييق والأذى على المؤمنين حتى يسامون سوء العذاب، فيقتلون، وترمل نساءهم، وتصادر أموالهم، وينزل بهم كل منكر.. كان حقًّا على الدعاة أن يدفعوا الثمن غاليًا وبسخاء من أموال ودماء ونفوس وشهداء.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا في ركن الثبات من أركان البيعة:
وأريد بالثبات: "أن يظل الأخ عاملاً مجاهدًا في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23)، والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة.

وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا الستة تحتاج إلى حسن الإعداد وتحين الفرص ودقة الإنفاذ، وكل ذلك مرهون بوقته ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الاسراء:51) أهمية الموضوع تكمن في أمور منها:

كثرة المحن والابتلاءات التي تتعرض لها الدعوات من بعض المغرضين والمنتفعين والمتحاملين وتنوع أساليبها وطرائقها سواء من المسلمين أو من غيرهم.

كما أن وضع المجتمعات الحالية، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريبًا، فنال المتمسكون به مثلاً عجيبًا "القابض على دينه كالقابض على الجمر". ولا شك عند كل ذي لُب أن حاجة المسلم اليوم للثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر.

وارتباط الموضوع بالقلب يعلي من شأنه، فيقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في شأنه: "لَقلب ابن آدم أشد انقلابًا من القِدْر إذا استجمعت غليانًا".

يقول الشهيد سيد قطب: فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون؛ وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون؛ فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار؛ وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا؛ وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟!

أهمية الثبات
الثبات معنى عظيم من معاني الدعوة إلى الله و له آثار كبيرة في نفس الداعية الثابت وفيمن حوله، تفعل فعلها وتؤثر أثرها، وفيه جوانب هامة في تربية الفرد والمجتمع:
أولاً: الثبات دليل على سلامة المنهج، وداعيًا إلى الثقة به، لكل مسلم نهج ينهجه وطريق يسلكه ليوصله إلى دار القرار والعزة أو الهوان والذل، فإذا اقتنع الداعية بمنهجه وثبت عليه وضحى من أجله كان من أهم عوامل التثبيت لمن خلفه والعكس صحيح. ومن هنا تكمن خطورة الثبات لأنه مرآة تعكس مدى اقتناع الفرد بمنهجه وبسلامته وصحته، فليتقي كل داعية الله في دينه ودعوته ورسالته ولا يترخص في مواقف لا يجوز فيها الترخص، بل يجب فيها الثبات وإقرار الحق مهما كانت التضحيات.

ثانيًا: الثبات مرآة لشخصية المرء، ومطمئن لمن حوله، يثق الناس في الثابت الراسخ، ويعظم أثره فيهم، حيث يشيع فيهم الطمأنينة إلى حاله والركون إليه، بينما القلِق المتقلب قلما يُركن إليه ويوثق به، وهو عامل خوف واضطراب فيمن حوله من الناس. ولعل في موقف الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن وثباته أكبر دليل على ذلك حيث كان في ثباته نجاة للأمة كلها من محنة كبيرة لا يعلم أحد مدى ما كان يمكن أن يحدث من جرائها. كما في موقف الإخوان في محن 1954م، و1965م، وثباتهم على منهجهم من غير تبديل ولا تغيير أكبر مطمئن للدعاة على مر العصور على سلامة وصحة المنهج والطريق.

ثالثًا: الثبات ضريبة الطريق إلى المجد والرفعة في الدنيا والآخرة، كل عمل عظيم يحتاج تحقيقه إلى ثبات وقوة في التناول والأخذ، وهذا ليس مقتصرًا على المسلمين فقط، بل إن كل شعوب الأرض لا تصل إلى المجد والرفعة والسناء إلا بثبات عظيم، ومن اطّلع على تاريخ الغرب في زمان الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية وثورة البخار علِم قدر ثباتهم وتضحياتهم. كما أن تاريخنا الإسلامي ذاخر بالكثير من المواقف المضيئة التي تعبر عن ذلك بوضوح شديد.

رابعًا: الثبات طريق لتحقيق الأهداف، فالثبات عامل مهم في الأثر الذي يتركه الإنسان في هذه الحياة، وهو الموصل- بإذن الله- إلى ما يريده المرء ويطلبه؛ فالمُريد تغيير حركة التاريخ، والراغب تعبيد الناس لرب العالمين، والعامل على رفعة دينه وإعلاء رايته لا غنىً له عن الثبات والرسوخ، وليس له- بغير الثبات- من مراده ذلك إلا الأوهام والأماني، وكلما علا الهدف علا الجهد والثبات المطلوبان لتحقيقه.

مواطن الثبات
ومواطن الثبات كثيرة ومتعددة ونذكر بعضها بإيجاز:
أولاً: الثبات في الفتن:
إذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم. ومن أنواع الفتن:
فتن المال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)﴾ [التوبة].

فتنة الجاه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28 ]

فتنة الزوجة: ﴿إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن:14 ].
فتنة الأولاد: "الولد مجبنة مبخلة محزنة" صحيح الجامع (7037).

فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويمثلها أروع تمثيل قول الله -عز وجل-: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)﴾ [البروج].

يقول الشهيد سيد قطب: كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض. فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جدًّا ومعنى كبير جدًّا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب.. يعقب به السياق..

بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه. وهي الخاتمة الحقيقية للموقف. فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفًا من أطرافه، لا يتم به تمامه.. وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون.

وروى البخاري عن خباب- رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة في ظل الكعبة. فقال- عليه السلام-: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده عن دينه...".

وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن: يقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت في قلبه نكتةً سوداءَ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتةً بيضاءَ، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا؛ لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُربَّدًا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه" رواه أحمد ومسلم عن حذيفة مرفوعًا.

ثانيًا: الثبات في الجهاد:
﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾ (الأنفال: 45).
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)﴾ (آل عمران)
إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت. فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان!
إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي. وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.

ثالثًا: الثبات على المنهج:
﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب:23 )، مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل.. لا لشيء إلا لأنهم عندما بايعوا على المنهج كانوا يبايعون الله وكانت يد الله فوق أيديهم، وكانوا على ثقة تامة بسلامة المنهج وصحته واستعدادهم للبذل والتضحية من أجلة ومن ثم الثبات عليه ابتغاء الأجر والمثوبة من الله سبحانه.

رابعًا: الثبات عند الممات:
﴿إنَّ الَذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا ولا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾، والثبات في هذا الموقف لن يتم إلا بجهد جهيد وعمل دؤوب متواصل وإخلاص وتجرد تامين لله ليتم التثبيت عند الممات.

خامسًا: الثبات عند علو الأعداء:
فقد يصاب الإنسان بحالة من اليأس والقنوط عند ارتفاع شأن الأعداء وعلو راياتهم، ولكن المسلم الواثق بنصر الله والواعي لدينه العامل له بإخلاص وتجرد يعي تمامًا أن الحرب جولات وأن النصر للمؤمنين حين يستوفون موجباته وأن علو الباطل وأعوانه ما هو إلا لوقت محدود وأن العاقبة لمن اتقى.

يقول الشهيد سيد قطب: تتبدل الأحوال ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى وينظر إلى غالبه من علٍ ما دام مؤمنًا، ويستيقن أنها فترة وتمضي، وإن للإيمان كرهًا لا مفر منها. وهبها كانت القاضية؛ فإنه لا يحني لها رأسًا.

إن الناس كلهم يموتون أما هو فيستشهد. وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة، وغالبه يغادرها إلى النار.. وشتان شتان، وهو يسمع نداء ربه الكريم ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198)﴾ (آل عمران).

الوسائل المعينة على الثبات
أولاً: الإقبال على القرآن:
القرآن العظيم وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم.

نص الله على أن وظيفة هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجّمًا مفصلاً هي التثبيت، فقال- تعالى- في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ [الفرقان:32،33].

ثانيًا: التقرب من الله والإكثار من العمل الصالح:
قال الله- تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ (إبراهيم: 27).

قال قتادة: أما ﴿فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ﴿وفِي الآخِرَةِ﴾ في القبر.
كذا روي عن غير واحد من السلف. وقال سبحانه: ﴿ولوْ أَنهمْ فعلوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ (النساء: 166)، أي على الحق.

وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتًًا من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهمّ الخطب؟ ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم الله إليه صراطًا مستقيمًا ويثبتهم بما ثبتوا به أنفسهم في الدنيا.

ثالثًا: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل:
والدليل على ذلك قوله- تعالى-: ﴿وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنباءِ الرُّسلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [ هود:120].

فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للتسلية والتفكه، وإنما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأفئدة المؤمنين معه.

فلو تأملت قول الله عز وجل: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وسلاماً عَلَى إبْرَاهِيمَ (69) وأَرَادُوا بِهِ كَيداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء:68 -70]، قال ابن عباس: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل" وهنا نشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل النفس ونحن نتأمل هذه القصة، وما تبع هذا الثبات من معية الله سبحانه وتعالى لأوليائه.

وفي قول الله عز وجل في قصة موسى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء:61،62)، نحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الظالمين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين، ولكنها ثقة المؤمن وثباته في الأوقات العصيبة.

كما في قصة سحرة فرعون نرى المثل العجيب للثلة التي تثبت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيمًا من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأَبْقَى﴾ (طه: 71).

ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: ﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طه: 72).

وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة.

رابعًا: الدعاء:
من صفات المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران:8]، ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ [البقرة:250].

ولقد كان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم- يكثر أن من قول: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك"

خامسًا: ذكر الله:
وهو من أعظم أسباب التثبيت وتأمل هذا الاقتران بين الأمرين في قوله- عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأنفال:45] فجعله الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.

يقول الشهيد سيد قطب: وأما ذكر الله كثيرًا عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن؛ كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي. ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي، قولهم: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين..

سادسًا: التربية:
التربية الإيمانية العلمية الواعية والمتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات.
التربية الإيمانية: التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة.
التربية العلمية: القائمة على الفهم الصحيح والمتشبعة بصحيح الإسلام..
التربية الواعية: التي تعرف سبيل المجرمين، وتدرس خطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علمًا، وبالأحداث فهمًا وتقويمًا، المنافية للانغلاق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة.التربية المتدرجة: التي تسير بالمسلم شيئًا فشيئًا، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطِّمة.

ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونسائل أنفسنا: ما هو مصدر ثبات صحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- في مكة إبَّان فترة الاضطهاد؟ كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشِّعب وغيره؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ثقَّلت شخصياتهم؟

لنأخذ رجلاً صحابيًّا مثل: خباب ابن الأرت- رضي الله عنه- الذي كانت مولاته تُحْمي أسياخ الحديد حتى تحمَر، ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك (شحم) ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟ و"بلال" تحت الصخرة في الرمضاء، و"سميَّة" في الأغلال والسلاسل... وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني، من الذين ثبتوا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في حنين لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم مسلمة الفتح الذين خرج أكثرهم طلبًا للغنائم، وحديثو العهد بالإسلام؟ كلا... إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدرًا عظيمًا من التربية على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، لو لم تكن هناك تربية تُرى هل سيثبت هؤلاء؟

يقول الشهيد سيد قطب: ولكن المسألة ليست هي النصر.. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية.. البشرية بكل ضعفها ونقصها؛ وبكل شهواتها ونزواتها؛ وبكل جاهليتها وانحرافها.. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادًا عاليًا من القادة. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج.. ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة. وصبر على الشدة بعد الرخاء. وطعمها يومئذ لاذع مرير!..

سابعًا: الثقة بالطريق:
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم كان ثباته عليه أكبر... ولهذا وسائل منها:
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديدًا ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق، قد سار فيه من قبل من الأنبياء والصديقين والعلماء والشهداء والصالحين، فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أُنسًا، وكآبتك فرحًا وسرورًا، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج ويقول الشهيد سيد قطب: "إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم، ضارب في شعاب الزمن، ماضٍ في الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء.. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إن نصر الله دائمًا في نهاية الطريق".

- الشعور بالاصطفاء، قال الله -عز وجل-: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل:59]، ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر:32]، ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ [يوسف:6 ]... وكما أن الله اصطفى الأنبياء؛ فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو: ما ورثوه من علوم الأنبياء. ألا فإن اصطفاء الله لك؛ أن جعلك داعية من الدعاة إلى الله من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك؟

ثامنًا: الالتفاف حول العناصر المثبتة:
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به- صلى الله عليه وسلم-: "إن من الناس ناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر" البحث عن الصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معينٌ كبير على الثبات، حتى قال بعض السلف: ثبَّت الله المسلمين برجلين :"أبي بكر" يوم الردة، و"الإمام أحمد" يوم المحنة.

وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات الله والحكمة... الْزمْهم وِعِش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتخطفك الشياطين.

تاسعًا- الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:
نحتاج إلى الثبات كثيرًا عند تأخر النصر، حتى لا تزل الأقدام بعد ثبوتها. قال تعالى: ﴿وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ﴾ [آل عمران:146-148].

يقول الشهيد سيد قطب.. وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة. فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح. وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء.. فهذا هو شأن المؤمنين، المنافحين عن عقيدة ودين.. وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء. بل لم يطلبوا ثوابًا ولا جزاء.. لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة. لقد كانوا أكثر أدبًا مع الله، وهم يتوجهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله. فلم يطلبوا منه- سبحانه- إلا غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام.. والنصر على الكفار. فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار.. إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم.

وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئًا، أعطاهم الله من عنده كل شيء. أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة. وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه: فآتاهم الله ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة..

ولما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن؛ فماذا قال؟

جاء في حديث خباب عند البخاري: "ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه" البخاري.

يقول الشهيد سيد قطب: "سنة الله في الدعوات واحدة كما أنها وحدة لا تتجزأ.. دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب، وتتلقى أصحابها بالأذى، وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى.. وسنة الله تجري بالنصر في النهاية".

إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح"

عاشرًا: معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به:
إن في قول الله -عز وجل-: ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ﴾ [آل عمران:196 ] تسريةٌ عن المؤمنين وتثبيت. وفي قوله -عز وجل-: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾ [الرعد:17 ] عبرةٌ لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له.

ومن طريقة القرآن فضحُ أهل الباطل وتعريةُ أهدافهم ووسائلهم ﴿وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ﴾، حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم؛ ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم.

يقول الشهيد سيد قطب: وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.. ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان. فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها. وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها: حكمة تمييز الصفوف، وتمحيص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجهًا لوجه وقد كانوا يتمنونه، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي! ثم في النهاية محق الكافرين، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين.. وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة....

ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم. والرخاء في هذا كالشدة. وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل. والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.

وقد كان الله يربي هذه الجماعة- وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب- وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعةً لله، وتوكلاً عليه، والتصاقًا بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.

حادي عشر: استجماع الأخلاق المعينة على الثبات:
وعلى رأسها: الصبر، ففي حديث الصحيحين: "ما أُعطي أحدٌ قط خيرًا أوسع من الصبر، وأشد الصبر: عند الصدمة الأولى"، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عُدم الصبر.

لما أُصيب المسلمون في أُحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم بالنصر، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء: ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ [آل عمران:165].

ماذا حصل من عند أنفسهم:
* فشلتم
* وتنازعتم في الأمر
* وعصيتم
* منكم من يريد الدنيا.

يقول الشهيد سيد قطب: فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون. إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضًا. التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان. فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان. والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات. والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال.. والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدًا منها، في الطريق المحفوف بالمكاره.

طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان.
والله يحب الصابرين..
الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون.. والتعبير بالحب من الله للصابرين. له وقعه. وله إيحاؤه. فهو الحب الذي يأسو الجراح، ويمسح على القرح، ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير.

نماذج من الثبات
1 النبي- صلى الله عليه وسلم- وإخوانه الأنبياء وثباتهم في مواجهة شتى أنواع التحديات التي قد تواجه الداعية.
2 الصحابة رضوان الله عليهم: وإتباعهم لمنهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في الثبات وإقتدائهم به ومواقفهم كثيرة في هذا المجال.
ونكتفي بموقف عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي: وهو صحابي كريم، ثبت في موقف عظيم، قلّ أن يثبت فيه إلا المُوفقون.
3 الدعاة والعلماء مثل الإمام أحمد والإمام ابن تيمية الإمام حسن البنا، والأستاذ حسن الهضيبي، والشهيد سيد قطب، والشهيد أحمد ياسين، والشهيد عبد العزيز الرنتيسي وغيرهم الكثير من الدعاة والمصلحين عبر العصور ممن ثبتوا وثبت الله بهم الدعوة والدعاة ونصر بهم دعوته. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الثبات حتى الممات.. اللهم آمين

ليست هناك تعليقات: