الجمعة، 30 مايو 2008

شرح رسالة المؤتمر السادس (2/2)

إعداد: وليد شلبي
توقفنا في الحلقة السابقة عند أن حركات الإصلاح التي سبقت الجماعة في عالمنا الإسلامي من حركات التجديد محسوبة عليها، وأن أي تجربة سابقة أنت محاسب عليها وتكرار الخطأ يعني مقتلاً سريعًا، والتعصب الكبير الذي يواجهه العمل الإسلامي المعاصر الآن وعدم القدرة على تحقيق النتائج وابتعاده، وبينه وبين العواقب والنتائج بون شاسع؛ وذلك كله يرجع إلى أن الجميع يعمل محتميًا بالإسلام، فبالنسبة للدعاة يعملون للإسلام وحقوقه، والخصوم يعملون للإسلام، والأمة أيضًا تعمل للإسلام.

فيجب على الداعية ألا يبقى في جانب المتفرج، بل يتحرك عندما يشعر بالقضية، ويشعر أنها تهمه وفي مصلحته، فهذا هو عمله أن يجعل الأمة تستشعر القضية، فهمُّ الدعاة أن يزيحوا الغموض وأن يوضحوا القضية، وهذا هو العمل الإسلامي بعيد عن أي إدارياتٍ أخرى، ويجب عليه أن يتحدث عن هذه الغاية دائمًا ويعمل لها.

فعندما أشار الإمام البنا إلى أن الخصوم يخونون إسلامهم وغايتهم بقوله: إن مطلبهم الحكومة المسلمة فقوة التنفيذ جزء من تعاليم الإسلام تؤيدها أمة مسلمة.. فرأى أن الحكومة خانت أمانة الله وأمانة الناس عندهم؛ فقد خانوا أمانة الله عندما التزموا الإسلام ولم يعملوا له، وخانوا الناس عندما أعلنوا في دستورها أن الدين الرسمي يكون للدولة المسلمة ولم يعملوا به فبذلك يجب عليها المجاهرة بأن وادي النيل هو حامل رسالة الإسلام ونفهمها ونُجليها للناس حتى يعملوا بها بدون مهادنةٍ أو معارضة فبذلك وضع الخصوم في خانة التخوين لأمانة الله والناس.

بين الدين والدولة
فكان الإمام البنا حريصًا على أن تكون قضية الإسلام قضيةً واضحةً لا تأخذ أي نوعٍ من الإجراءات والشكليات، ولا تُصور الجماعة على أنها صراعٌ سياسيٌّ فيستغل الخصم ذلك فيبعدك عن منطقة قوتك وهو انتماؤك للإسلام، ومن ناحية أخرى يسحب الأرض من تحت قدميك عندما يُظهرك للأمة والشعب أنك تصارع من أجل أغراضٍ تحققها لنفسك.

وذلك ما نجح فيه الإمام البنا، والدليل على ذلك مدة حياته الدعوية الـ20 عامًا واستمرارية عمله، فقد روى بعض الإخوان المسئولين عن النظام الخاص أن حسن البنا إن أراد أن يُحدث انقلابًا في الحكم لكان يحدث في يومٍ وليلة، فإنه لم يكن هناك مصلحة أو فئة أو طبقة في الأمة المصرية إلا وفيها العديد من الإخوان، ولكنه كان ينظر أن يستمر الدين، وإن ضاعت الدولة، فالدين هو مَن يصلح الأمة والدولة في الحقيقة هي تعبير عن مفاهيم الدين والأخلاق، وكان يهدف إلى القوة النافعة الجدية، ولم يتكلم عن الثورة المسلحة قط، وكان يقول عنها إن هذا الزمن قد انتهى تمامًا في ظل الظروف التاريخية الراهنة.

واعلم جيدًا أنك إن جئت بالقوة المسلحة أو السلطات والنفوذ فقد انتهيت، فإنه أكثر ما يقاوم من الجميع الخصوم والأمة، أما إذا جئت من قوة الجماهير وقوة الأمة وقوة العصيان وقوة الاحتجاج وقوة التظاهر تعني الأمة؛ أي تعني أن الأمة معك ممكن أن تؤدي إلى نتيجة، فلكي تنجح الدعوة يجب أن تتوفر الأمور الآتية: البساطة وحقائق الحياة حتى لا يوجد فيها إجهاد ذهني فيسهل فهمها وممكن أن أتقبلها فتعطيها المهابة.

البنا.. الرجل القرآني
وهذا بالتحديد ما أراده البنا، وكما قال عنه روبيير جاكسون إنه كان يستطيع أن يعبر عن معالم قضيته الكبرى بكلمات مفيدة فقد سألته: يومًا إلامَ تدعو؟ عندما تحدث البنا عن هذا الحوار قال إن جاكسون كان يستضيفه ليعمل حوارًا صحفيًّا يساعده في كتابه، ومن ذكاء الإمام كان يعلم أن هذا الأجنبي لا يحتاج إلى أن يشرح له فوائد الإسلام، وأنه صحفي يريد أن يأخذ كلمتين، فسأله الإمام رحمه الله أتعرف محمدًا قال جاكسون: "نعم"، فسأله الإمام: أتعرف ما صنع؟ قال: "نعم"، فقال الإمام: "نحن ندعو ما دعا إليه، ونصنع ما صنع"، فأدرك روبيير جاكسون مَن هو حسن البنا وكتب في مذكراته إن الأيام لن تبعده وإن حياته أكبر منه.. فقد جاء جاكسون ليكتب كتابًا عن العالم الإسلامي وعن مصر من الناحية السياسية والدينية فيها فلم يكتب الكتاب ولكن كتب (حسن البنا رجل قرآني).

فالإمام كان يؤمن بأن التغيير لا يحدث بانقلاب ولكن بإصلاح الأخلاق؛ فهي سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في التغيير وأنه لا يحدث إلا بإرادة الأمة فعندما سأله فريد عبد الخالق هل سيأتي يوم يعود النحاس مرةً أخرى؟ قال الإمام إن اختارته الأمة يحضر ثانيةً فإن الأمر ليس ثابتًا ولا يوجد شيء بالإكراه، وما تختاره الأمة يكون لها فإن اختارت الهيمنة فلتتحمل أعباء وتبعات الاختيار وتشعر بالحرج الشديد لاختياره.

وكان كل سعي وحرص الإمام البنا في صراعه، هو حرصه على الإسلام، وعلى أصوله، وعندما تكلم عن رجال الأحزاب عندما سُئل لما لا نواجههم فقال الإمام: نحن في حاجة إلى الجهد الذي يُبذل في الكفاح السلبي من أجل مهاجمتهم وأن ننفقه في عملٍ نافع وكفاح، ونتركهم للزمن فإن الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

القوة الحقيقية
ومن كلماته أننا لن نتقدم لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال فيكون حكمًا سلبيًّا ويظهر شائعات وسيئات الأمة ويملؤها بالعنفوان والخروج عن المألوف؛ فإن الأمة كثيرة الذنوب يكون الحكم فيها على هذه الحالة فيظهر بشاعتها وعنفوانها؛ فلذلك حرص الإمام أن يُقدم المصلحة العامة على الخاصة.

وفي بعض المطالبات في برلمانٍ أو خلافه يمكن أن تؤدي إلى استجابة؛ وذلك بعيدًا عن صور الضغط.. فأية رسالة يمكن أن تمارس نشاطها بعيدًا عن القوات المسلحة أو العنف، فهو مشروع طويل الأمل، فبذلك يكون لديك قوة جماهير هي التي تُطالب عنك لأنها تشعر أنك تعبر عن مفاهيم الدين والأخلاق لديها، وتوصل هذه الرسالة إلى رجل الشارع العادي؛ لأنه آلة التشريع والتنفيذ ووسيلة نقل رسالتك، وبالتالي جمهور الأمة أهم فهو المكافح معك من تحت قبة البرلمان، فإما أن يُستجاب لمطالبك وإما أن تُمنع أصلاً كما يحدث الآن، فسوف يكون معك جمهورٌ تكافح به ويساندك، فهذه قوة الجماهير فرجل الشارع يساندك ويساعدك طالما تتحدث معه بلسان الدين.

في عام 1961م، عندما عمل الرئيس جمال عبد الناصر مؤتمرًا قوميًّا وتكلم فيه الشيخ محمد الغزالي عن لباس المرأة ودعوته للاحتشام على العيان أمام الجميع ومباشرةً في اليوم التالي قام صلاح جاهين رسام الكاريكاتير المشهور بجريدة "الأهرام" بعمل صفحةٍ كاملةٍ سخريةً من الشيخ الغزالي، وكان المؤتمر يوم الخميس وظهرت الجريدة صباح الجمعة فخرجت الجماهير (عدة آلاف) بعد صلاة الجمعة من مسجدي الأزهر والحسين وبدون أي تنبيهٍ، وكان لا توجد أية قوة للإخوان على الساحة تحث الناس وتدعوهم إلى ذلك العمل.. خرجوا قائلين: "صلاح جاهين عدو الدين"، وقاموا بتقطيع الجريدة وذهبوا كل هذه المسافة إلى أن وصلوا إلى مبنى الأهرام يضربونه بالحجارة، واستمروا على ذلك حتى جاءت الشرطة وفرقتهم واعتقلت مَن اعتقلت منهم، وكان أحد المعتقلين واحدًا من الإخوان، كل هذا لمجرد أن صلاح جاهين تعرَّض للشيخ محمد الغزالي. وهذه المظاهرة خرجت تلقائيةً، فرجل الشارع اعتبر ما قام به صلاح جاهين يمس دينه وعقيدته، فقام يدافع عن دينه.

منهج البنا
وهذا ما أراده الإمام البنا، حيث كان حريصًا على أن تكون قضية الإسلام بعيدةً عن كل ما يشوبها من أن تكون صراعًا سياسيًّا أو صراعًا على السلطة، وإن ما اتصل بالإسلام من قضايا مثل الحرية فهي فريضة من فرائضه، ومواجهة الظلم، وهذا من أمر الإسلام، ومحاربة الفقر، ومحاربة الفرقة فهما من أسباب الهزيمة، وأن لا يكون له أي اعتماد إلا على قوة الجماهير.

ومن أقواله أن لا توجد أمة تتبوأ مكانتها في التاريخ إلا وهي غنية بأخلاقها، وكان هذا منهجه في تربية الأمة وهي تهذيب النفوس والأرواح وتزكية الأخلاق، فوفرة الأخلاق هي التي تصنع الأمة وتسير بها إلى ناحية مثمرة، وكما قال الشاعر:
قد كان فوت الموت سهلاً فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

فإن كان طريق الموت سهلاً فأتنازل عن المبادئ والأخلاق في تحقيق المنفعة الخاصة وغاية قريبة.

فكان الناس يقولون عن الإمام الشهيد- رحمه الله- إنه حرص على أمرين هامين طوال حياته وعرضها رغم قصرها؛ إذ لا يُعرف عنه أنه شيخ طريقة أو صاحب منفعة، فقد حرص أصحاب المنافع على عدم التقدم والإباحية والإبقاء على حالة التخلف الطبيعية وتأمين وجود الأجنبي المفيد لهم، أما الإمام البنا فقد حرص أن تتضح الوسائل منضبطة ووفرة أخلاق.

فهم البنا ونهايته
سؤال حائر لا يزال يدور معنا هل هناك ارتباط بين الإسلام كما كان يفهمه البنا ويدعو إليه وبين نهايته التي جاءت لحياته على نحوٍ غير مسبوق؟ طبعًا بلا شك مما أدى إلى ذكره في التاريخ؛ فقد كانت حياة الإمام صورةً لما جاء به، لم يكن أحد أوضح من الإمام وفي حماسه، وكما قال عدد من الإخوان مَن هم في سن الثمانينيات إن الإمام إذا كانت هناك أزمةٌ تمر بالدعوة تجد أنه أشد وضوحًا، ولا يُخفي شيئًا في كلامه، ولا يختبئ.. فمَن يفعل ذلك ممن هم أصحاب الغايات والمصالح الشخصية، فلما سمع الإمام بقرار حل الجماعة، وفي ذلك الوقت كان الإمام في الحج، ومن عادته أنه يجلس هناك فترة طويلة ليفتح أبوابًا جديدةً للإصلاح، فلما علم بأمر الحل اختصر المدة وعاد إلى مصر ليواجه الموقف بنفسه وكتب طلبًا لمقابلة النقراشي ليعرف سبب حل الجماعة، ولكن النقراشي رفض، وكان النقراشي يعلم أن البنا لا يُقاوم، ومع إصرار البنا وقوته وثقته بنفسه وإيمانه بدعوته جعل النقراشي يعدل عن تنفيذ القرار بحل الجماعة؛ وذلك لإيمانه بدعوتنا، وأنه لا يوجد شيء مخالف يستدعي الخصومة.

وكان الإمام يقول: نحن موقفنا من الحكومة- مع أننا لم نرَ منها إلا الوعود البراقة، وأنها السبب في انحدار الأمة- إلا أننا موقفنا منها بمثابة موقف الناصح الشفيق، نُقدم لهم الخير والمشاريع والأفكار، وهكذا لنُخرج الأمة من مأزقها.

عندما سُئل أحد الإخوان ما أهم صفات الإمام قال: إنه في الأزمات يظهر ويبرق لإيمانه العجيب وثقته بدعوته، فكان رجل إيمان ويخاطب أمةً فلا يصح أن يضحك عليها أو يسخر منها.

هل كان الإمام يختبئ في الأزمات؟
مَن قال في حقه ذلك أناسٌ مرضى بالفساد الأخلاقي، وهم نتيجة لكارثة أخلاقية لما مارسته الحكومات من الفساد والظلم والإباحية في حكمها فتفشى فيهم الفساد.

فالرسول- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يُوقِّع صلح الحديبية جاءه أبو جندل مسلمًا على أن لا يرده رسول الله، ولكن سهيل بن عامر والد أبي جندل جاء لرسول الله ليرد عليه أبا جندل فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: إننا لم نُوقِّع الاتفاق، فرد سهيل: ولكنك وعدت- أي أعطيت كلمة-، وأبو جندل يخاف الفتنة في دينه وقد بدا به الجزع إلى الإعياء، فجاء سيدنا عمر بن الخطاب يشحذ السيف أمام أبي جندل ويقول: والله إن كان أبي يردني عن ديني لقتلته دم الرجل بأبيه؛ يريد سيدنا عمر إنهاء القضية، ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لقد أعطيناهم عهدًا لله وميثاقه، وأنَّا لا نغدر أبدًا.. اذهب معهم يا أبا جندل".

فكان الإمام يتعلم ممن سبقه، فيجب التعلم دائمًا مما سبقك فيعلمهم أن لا يدخلوا في أي منازعاتٍ حتى يحافظوا على غايتهم ويستمروا، فلا تستطيع أن تنسلخ أبدًا من التاريخ السابق لك في الإصلاح.

وأي عملٍ تقوم به يجب أن يكون مدروسًا ومخططًا له وتتلافى أخطاء الآخرين حتى لا تكون مقتلاً سريعًا، كل ما تجعل العمل بعيدًا عن صراعات فهذا أجدر ألا يستغله الخصم وأي عمل يستخدم العنف والسلاح وغير ذلك سوف يفيد الخصم، فسوف يأخذ الشكل والإجراءات ويبتعد عن المحتوى، فإنك في ذلك الوقت لا تحرص على الإسلام وغيره، بل تحرص على الفعل الذي تفعله الآن، وبالتالي يسحب الخصم البساطَ من تحت أقدامك ويجعل القضية ليست للإسلام بل للصدام والسلطة والاختلاف على مصالح سياسية فحسب.

ففي الظروف الحالية ستمر أوقات طويلة جدًّا حتى تستطيع الناس أن تصدقك حتى تعرف الأمة مصلحتها "أين ومع من"، فالجماعة مرت في تاريخها بوقتٍ طويل ومحن وأعمار ودماء قضيت وراء إنجاح العمل فأخذت الدليل على مصداقيتها.

شرح رسالة المؤتمر السادس (1/2)


إعداد: وليد شلبي*

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد
نستعرض اليوم شرحًا لرسالة المؤتمر السادس، والذي سنتاوله على مرحلتين: المرحلة الأولى وهي الحديث عن الخطوط العامة للرسالة ثم المرحلة الثانية والحديث فيها عن كيفية إدارة الصراع السياسي الذي ألمح إليه الإمام البنا في مضمون رسالته.

والمعروف عن رسائل الأستاذ الإمام البنا أنها عملٌ يخاطب الواقع.. ويمليه الواقع كذلك. وهذا المؤتمر له خصوصية غير المؤتمرات التي سبقته، حيث إنه آخر مؤتمر أقامه الإخوان، وبعد ذلك تداعت الأحداث، وكانت الحرب العالمية الثانية في أوجها في ذلك الوقت، هذا غير الأحداث الداخلية التي حدثت في مصر وأدَّت في النهاية إلى حل جماعة الإخوان بعد مقتل الخازندار ومقتل النقراشي ثم مقتل واستشهاد الإمام البنا رحمه الله.

وكان المؤتمر الأول الذي عقده الإخوان قد تكوَّن فيه مكتب الإرشاد وتكوَّن فيه قسم الأخوات، ثم المؤتمر الثاني في نفس العام 32/33، ثم المؤتمر كان الثالث في عام 34 وفي هذا المؤتمر قُدمت ورقة هامة رغم أن الجماعة في ذلك الوقت لم يمر عليها أكثر من ستة أعوام، فالجماعة أُنشئت سنة 28، وهذا المؤتمر الثالث كان في سنة 33؛ أي بعد مرور خمس سنوات فقط على الجماعة، ورغم ذلك قُدمت في هذا المؤتمر الورقة بعنوان (إلى أي مدى وصل الإخوان المسلمون وماذا يعوزون؟)، وكانت تُعتبر نقلةً نوعيةً في هذا المؤتمر؛ لأنه لأول مرة يحدث ما يُعرف بالمصطلح الحديث (النقد الذاتي).

ثم كان المؤتمر الرابع، ثم المؤتمر الخامس، وهو أيضًا من المؤتمرات الهامة جدًّا وأُعدت فيه ورقه هامة عُرفت بعد ذلك بـ(رسالة المؤتمر الخامس)، ومن نتيجة هذا المؤتمر الدعوة إلى البحث عن الوسائل العلمية التي تُحقق للإخوان غايتهم، ومن أجل ذلك تكوَّنت عدة لجان؛ لجنة دستورية لبحث الدستور وموافقته الشريعة، ولجنة قانونية للنظر في إعادة الأحكام التشريعية القضائية وموافقتها للشريعة الإسلامية، ولجنة علمية تدعو إلى كتابة الفقه بصورةٍ ميسرةٍ والتي صدر عنها كتاب (فقه السنة)، ولجنة علمية أيضًا للبحث عن أهم الوسائل التي تُحقق للإخوان غايتهم.

ثم كان بعد ذلك المؤتمر السادس الذي تكلَّم فيه الإمام البنا كما هو بين أيديكم عن محورٍ هامٍ نستطيع أن نقول إنه يهم العمل الإسلامي المعاصر، ولعل من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ذلك الاضطراب الذي يعاني منه العمل الإسلامي المعاصر تنبَّأ بها الأستاذ الإمام البنا في هذه الرسالة؛ رسالة المؤتمر السادس، ألا وهو إزاحة الغموض عن الغاية والوسيلة.

وكما يحكي الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه (أحداث صنعت التاريخ) أن هذا المؤتمر حدث في ظروفٍ عصيبةٍ خارجية وداخلية؛ أما الخارجية فكانت أحداثًا عالميةً وفيها انفجر مخزن البارود وكان أوج الحرب العالمية الأولى، وهي تجربة كما يروي المؤرخون أنها تجربة كارثية أصابت العالم أجمع.

أما الأحداث الداخلية فكانت بعض الانشقاقات التي حدثت في صفوف الإخوان، وكان أهمها خروج جماعة شباب محمد عن الإخوان المسلمين، وهذه الجماعة كان يرأسها المحامي محمود أبو زيد عثمان في صعيد مصر، وهو الذي ادَّعى أن وسائل الإخوان لا تُحقق الغايات، ودعا إلى الاستعجال والتطرف، وقد كتب مقالاً بعنوان الإسلام (يدعو إلى التطرف)، وادَّعى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى التطرف، والمعروف أن هذه الجماعة دخلت على الإمام البنا- كما سمعتُ من الأستاذ حامد أبو النصر يحكي لنا هذا التاريخ-؛ حيث دخلوا على الإمام البنا في المركز العام في مكتبه وأشاروا إليه بالسلاح على أن يترك الجماعة وطالبه أن يستقيل.. لكن الإمام رفض وفتح لهم صدره وقال: "خيرًا لي أنْ تستقرَّ هذه الرصاصات في صدري لكني لا يمكن أن أتخلى عن الأسلوب الذي أُومن به والطريق الوحيد الذي يؤدي إلى المقصود؛ عظيم الأجر وجزيل المثوبة من الله عز وجل"، وفتح لهم خزنة المركز العام وقال: "هذا المال خذوه وانتفعوا به"، ودعا لهم بالتوفيق.


وكانت هذه أحداث الانفصال، ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث والظروف العصيبة التي كُتبت فيها الرسالة (رسالة المؤتمر السادس) أظهرت موقع جماعة الإخوان ومكانتها في المجتمع المصري بصورةٍ فريدةٍ؛ مما لفت الأنظار إليها وإلى خطواتها أيضًا، كما يقول الأستاذ محمود عبد الحليم: "إن الأستاذ البنا قبل أي مؤتمر كان يُكوِّن فريقًا من الإخوة يقرأ عليه العناصر ومضمون الرسالة التي كان يتكلم فيها، أما بالنسبة لرسالة المؤتمر السادس فكوَّن عدة لجان وأخذ وقتًا طويلاً جدًّا في الإعداد لهذه الورقة؛ لأنها ناقشت المجتمع المصري من الداخل فكشفت الواقع المصري في هذه الفترة في أمرين هامين جدًّا، وهما الانهيار الداخلي من ناحية؛ حيث انتشار التحلل والإباحية وصور الجهل والفقر والمرض والتخلف والتشرذم، ومن ناحيةٍ أخرى الانقسام والفرقة في المجتمع المصري، وهو ما يهدد بانهيار كيان الأمة من داخلها، كما ذكر في بعض كلماته.


والجانب الآخر ما يهدد كيانها الخارجي من غلبةِ الأجنبي على خيرات البلاد، وكان لأول مرة يعرف الناس وكثيرٌ من المصريين حتى الوزراء ومَن هم في سدة الحكم هذه الإحصائيات التي قدَّمها الإمام البنا عن وجود عددٍ ضخم جدًّا من الشركات الأجنبية، التي استولت على خيراتِ البلاد، بالأرقام والإحصائيات والتاريخ، وكان صعبًا جدًّا في ذلك الوقت أن يُقدَّم بهذه الدقة؛ مما لفت النظر إلى خطورةِ ما يعرفه الإخوان عن الواقع المصري من داخله الذي لخصه الإمام عندما قال: "الخطر الذي يهدد كيانها الداخلي من فقرٍ وانقسامٍ والفرقة وفي أخطر صوره من الاستعمار والاحتلال".


مما لا شك أن الرسالة لفتت النظر إلى خطورة ما يعرفه الإخوان، وهذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة عن الواقع المصري في ذلك الوقت؛ وما يهدد كيانه الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء؛ ولذلك تسارعت الأحداث فيما بعد والتي أدَّت إلى المحن التي واجهتها جماعة الإخوان وانتهت باستشهاد الإمام البنا رحمه الله.

الغايات والوسائل
لعل أهم شيء توضحه الرسالة وتتحدث عنه هو إزاحة الغموض عن الغاية والوسيلة، كما يُقال في بعض الأقوال المأثورة "لا تذكر الغاية ولكن اذكر الوسيلة".. قل لي ما هي الوسيلة وأنا أحكم على الغاية؛ لأن الغايات دائمًا حسنة رفيعة، والذي يؤكد هذه الرفعة هي الوسيلة، كما قال الإمام البنا "الغاية أصل والأعمال فروعٌ لها"، وهناك قول مؤثر "اذكر لي الوسيلة أعرف لك غايتك".


ولذلك أراد الأستاذ الإمام البنا في هذه الرسالة أن يعالج الجانبين معًا (الغايات والوسائل)؛ ليزيح الغموض عن الجماعة، مما أشار به بقول "نحن قوم غامضون ولا يزال بعد مرور 19 عامًا بين النصح والدعوة والإرشاد لا يزال أناسٌ كثيرون لا يعرفون غاية الإخوان"؛ لذلك ظهرت جماعة شباب محمد التي كان كل احتجاجها على الدعوة أنها غامضة ولا تنادي إلى الهدى، ويجب استخدام القوة والتطرف وأن السنة النبوية سنة تطرف.. فجاء الإمام البنا في هذه الرسالة ليزيل الغموض عن الجميع.. وتكلَّم عن ما يميز الدعوات الصالحة التي هي غير سواها من دعوات السوء التي قال عنها "رائدة السوء عالية البوق".


وإنْ دلَّت هذه الرسالةُ على شيء فإنما تدل على وفرةٍ أخلاقية تحكم هذه الغاية؛ فقد تكلَّم عن التجرد والتضحية والإخلاص والجهاد والعمل والإخوة والثبات، والفهم على أساس كل دعوة صالحة؛ لأنه بغير الفهم ستضطرب صور السير، وهذه من الأمور الغامضة على كثيرٍ من الناس؛ لأن البعض أحيانًا يبرر بالإخلاص كل ما يقوم به من عمل، فالفهم قبل الإخلاص، والعمل ثمرة الفهم والإخلاص؛ ولذلك قدَّم الإمام البنا الفهم على الإخلاص والعمل.

البساطة والواقعية
وأراد الإمام البنا أن يُوصِّل الأمور بصيغةٍ بسيطةٍ واضحةٍ، كما يُقال البساطة في أي دعوة، وكان هذا أسلوب الإمام كما يقال "تستطيع أن توصل أي شيء بالبساطة"، وإن دعوة الإخوان ارتطبت بالبساطة التي تمنحها المهابةَ، وقد لخَّص الإمام الدعوة في خمس كلمات "البساطة، التلاوة، الصلاة، الجندية، الخلق".


فأي دعوة تريد النجاح يجب أن تتسم بأمرين (البساطة والواقعية)، وهذه طبيعة الإسلام، والبساطة مرتبطة بحقائق الحياة التي لا يستطيع أحد أن يقاومها أو يجحدها، وإذا تكلمنا عن الإسلام، فالبساطة هي التي منحته المهابة وحقائقه الواقعية هي التي أعطته المهابة، كما جاء في القران ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾ (الغاشية)، وهذا ما يميز دعوة الإخوان، فلا يستطيع أحد أن يجحدها.


وارتبطت أيضًا بالواقعية التي منحتها التطور؛ لأنها كانت مرتبطةً باللحظة التاريخية الراهنة، والمثل الذي جاء على ذلك حادثة الرق فعندما جاء الإسلام ينهى عن الرق لم ينههِ بصورةٍ صارمةٍ؛ بل بالتدرج في ذلك معتمد التغيير، ومن أجل هذا المناخ مناخ الحرية لينهى عن الرق فقد اعتمد الإسلام التغيير، ولكن لم يتم فعلاً الانتهاء من قضية الرق إلا بعد 13 قرنًا من نزول القران الكريم ليخاطب الواقع الذي كان موجودًا ويُكرِّس معاني الرق فكرةً.. إنها عملية التغيير الهائل الاجتماعي الذي يحدث في العالم، والقرآن يضع الجذور الأولى للتحرير، ويأتي ذلك بعد قرونٍ، بعد الحروب التي تمَّت في أمريكا من أجل تحرير العبيد، وأُعلن الإعلانُ الأخيرُ في أوروبا بتحرير العبيد وحقوق الإنسان.


والواقعية تعني التطور؛ لأنك مرتبط باللحظة التاريخية، ولأمرٍ ما قدَّم أيضًا الإمام رسالةً سنة 40 بعد عام من رسالة المؤتمر السادس مباشرةً بعنوان: (دعوتنا في طورٍ جديد)؛ لأن ارتباطه باللحظات الراهنة دخلت الدعوة في طورٍ جديد جعلت الناس تسأل عن الوسائل التي تتحقق بها الغايات والتطبيق لهذه الغايات فكانت هذه هي المحور الأساسي التي قدمت إليه الرسالة سنه40.


فكل دعوه ناجحة تتسم بالبساطة التي تمنحها المهابة، والواقعية التي تمنحها التطور، والموافقة على التغيير؛ أي اعتماد التغيير ثم الموافقة ضمنيًّا بعد ذلك عليه.


ويُوضِّح الإمام البنا- رحمه الله- الغاية التي نريدها في هذه الرسالة حتى يكون الأمر واضحًا؛ لأن وضوح الغاية يؤدي إلى قابلية الاستمرار؛ حيث إن غموض الغاية يؤدي إلى تبعثر الجهود وتوزع القوى والتصدي إلى تزعزع القيم إذًا تسقط الدعوة، وإنه إذا غمضت الغاية لا تُعرف الوسائل، فقابلية الاستمرار في الدعوات المجاهدة المستبسلة كدعوتنا التي تكون في تلك الظروف العصيبة تكون الغاية منها إحداث التغيير الشامل، فإنه ليس أمرًا محدودًا بل غاية بعيدة كما ذكر الإمام البنا- رحمه الله- أنها تنظيف رواسب قرون عدة سار فيها الفساد في مجموع المسلمين.


فعندما تتضح الغاية يسهل السير وتكون فيها قابلية للاستمرار؛ فلذلك حرص الإمام البنا على وضوح الغاية من دعوتنا وتقرير العلم لعمل الهداية، فقدْر فهمه للضلالة يكون فهمه لعمل الهداية المعروف بالمشروع الإسلامي لمعالجةِ التحلل والإباحية والتحرر، ومن ناحيةٍ أخرى وقف نهب الثروات من الأجانب.


فذكر الإمام رحمه الله الغاية: "نحن نريد حكومةً مسلمةً تؤيدها أمةٌ مسلمةٌ، وتنظم حياتها شريعةٌ مسلمةٌ"؛ أي نظام مسلم، ثم ذكر في حديثٍ آخر نتائج النظام الذي كان موجودًا، وهو انتشار الجهل الذي كان متفشيًا في ذلك الوقت حتى القلائل المتعلمين لم تستكمل المؤهلات الناجحة في حياتها، فالجهل يؤدي إلى تقدم الظلم، بالإضافةِ إلى أن الأمة الجاهلة هي التي قادت الاستعمار إلى هنا، فجهلها يجعلها تتنازل عن حقها في تقريرِ مصيرها بفساد الحاكم.. فكان نظر الإمام بعيدًا، فكما ذكر ابن خلدون في مقدمة معاني الظلم "أن الحاكم إذا كان قاهرًا لشعبه باطشًا بالعقوباتِ شغله الظلم والخوف وراوغ من حوله بالمكر والخديعة والكذب؛ ففسدت البصائر والأخلاق، وخذلته في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النياتِ فتفسد الدولة"؛ مما أشار إليه من القهر من الخارج في صورةِ الاستعمار أو من الداخل من الحاكم الظالم.


وهذا ما جعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول عندما جاء رجل يسأله وهو يضع رجليه في الغرس يا رسول الله: "أي الجهاد أفضل" قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كلمة حق عند سلطان جائر".


وهذا ما نراه من انعكاس الظلم على الشعوب والجماعات حيث يؤدي إلى فساد البصائر والأخلاق.


كما يقول أيضًا الإمام البنا: كيف يشعر بمعنى العزة والكرامة من عرَّى جسده وجاع بطنه، إنما يشعر بالعاطفة القومية من شبع بطنه واستغنى بدينه، ليشعر الإنسان بعزته وكرامته وانتمائه، فمَن لا يجد القوت في بلده لا يشعر بانتمائه.


علل سقوط الأمم
وتكلَّم الإمام البنا في علل سقوط الأمم كيف أنها تتداعى أمام عدوها، وهو الأجنبي الغاصب وتتنازل عن حقها في تقرير مصيرها.. فذكر الداء والدواء، كما دلل عليه في المؤتمر الخامس والذي تمَّ في المؤتمر السادس، وقال: "إن داء الأمة ضعف الأخلاق وفقدان المثل العليا وإيثار المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة والجبن عند مواجهة الحقائق والهروب من التبعات والعلاج ثم الفرقة- قاتلها الله- التي هي أصل الداء".


فشخَّص العلل التي أدَّت إلى تداعي الأمم، فالأمم تدخل التاريخ إذا كانت كريمةَ الأخلاق وإن كانت ندرة في الأشياء، وعندما تنزل من التاريخ تكون وفرة في الأشياء وندرة في الأخلاق؛ ويتضح ذلك من حديث أم عطية ومذكورٌ في السنن أنها عندما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- النساء أن يخرجن لصلاةِ العيد فقالت أم عطية إن إحدانا لا تجد لها جلبابًا- أي ندرة في الأشياء- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "فلتقرضها أختها جلبابًا"- أي وفرة في الأخلاق-، وهذا ما جعل أمة الإسلام تدخل التاريخ، وهذا توضيح الإمام البنا في أصل الداء فعندما تضيع الأخلاق تضيع الأمة، والرجوع إلى المثل العليا وغلبة المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة وعدم الهروب من تبعات العلاج وعدم الجبن من مواجهة الحقائق أي عكس الفساد تزكية النفوس والأخلاق، كما فعل من قبل آخرون مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفى كامل وعبد العزيز الجاويش عندما صاروا بالأمة إلى التعليم وتهذيب النفوس، فلو صارت مصر في طريقهم لأصبحت في التاريخ ووصلت إلى ذروتها، فمن أعمالهم إنشاء وزارة المعارف والذي أنشأها مصطفى كامل، وإنشاء المدارس الليلية للتهذيب؛ حيث أنشأها عبد العزيز جاويش، وعبد الرحمن الرافعي عندما تحدَّث عن حقوق الأمة، فكان الإمام يعلم جيدًا أن الخروج من هذا السقوط هو التهذيب الأخلاقي.



وفي وصفِ الجائر لم يتكلم فقط عن الحاكم كما يفعل آخرون، ولكن قال الإمام- رحمه الله- في وصف المعتدي الغاصب هو حاكم عني بنفسه أكثر من عنايته بقومه ووطنه، ومحكوم رضي بالذل وغفل عن الواجب وخُدع بالباطل وفقد الإيمان وفقد الجماعة، غير ذلك من التشرذم والتفرق والفرقة والظلم.


وذلك الشعور بروحِ التجمع والجماعة، قال: إن من طبيعة دعوتنا هي رُوح التجمع والشعور بالآخرين؛ أي أن تشعر بمسئولتك تجاه قومك ومجتمعك؛ أي معرفة مسئوليته الفردية، فقد أشار القرآن إلى أنَّ الفرد المخطئ تجاه نفسه ومذنب يعاقب في النهاية، أما المخطئ تجاه الآخرين يكون عقابه عاجلاً في الدنيا، فهذا حكم الله فينا، وعندما سُئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أنهلك وفينا الصالحون" فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"نعم، إذا كثُر الخبث": ، فيسرع المنقذون بالأعمال فليصعد المسيء في المجتمع الصالح.


فإذا أردنا أن ندخل البداية الحقيقية للنهوض فلا بد من وفرةِ الأخلاق وإن صاحبها ندرة الأشياء، وبذلك أوضح الإمام البنا الغموض عن الغاية حتى تتضح للجميع، وكل ما يريده من الحكومة المسلمة تؤيدها أمة مسلمة تنظم حياتها شريعة مسلمة، وبذلك عندما اتضحت الغاية نستطيع أن نتقبل النتائج بارتياحٍ وجلدٍ.


صلاح العالم
وأذكر قصة حدثت معي في السجن الحربي؛ حيث كان معي أخ لبَّان اسمه إسماعيل عبد العال فقير غلبان، من قرية بسيطة في دمياط تعلمتُ منه أشياء كثيرة مع أنني كنتُ أرى في نفسي أني على قدرٍ كبيرٍ فكنت تعلمت الكثير وقرأت 40 كتابًا كلها من كتب الإمام ورسائله وكُتب الأستاذ محمد قطب منها "نحن مسلمون"، و"شبهات حول الرسول".. ومع ذلك تعلمتُ من هذا الأخ ما يجعلني أحمل التبعات.. فسألت الأخ إسماعيل: "تفتكر هل الأحكام ستكون قاسية؟"- قلت له ذلك لأطمئن على نفسي- فردَّ عليَّ الأخ وقال: "اللي دفع قرش زي اللي ضرب قنبلة"، فكان هذا تقييمه وإحساسه بما قام به، وكان الأخ إسماعيل في ذلك الوقت نقيب أسرة في الفلاحين، ولكن كان هذا إحساسه بنظرةِ الخصوم إليه فلا تُهوِّن على نفسك فقد قال: "القضية التي دخلت فيها عملت أو لم أعمل فهي طريقي فإنهم إذا حكموا علي بسنة أو اثنتين لا أستطيع إن أُري الناس وجهي.. فهل نحن سرقنا "معزة"، إنما نُريد صلاح العالم".. هذا هو مثقف الفكر.


الرجل صدق الله فصدقه وحُكم عليه بـ25 سنةً مع أنه لم يفعل شيئًا فإنه نقيب أسرة فلاحة صغيرة زملاء في الطريق، ولكن كان موقفه في المحكمة وإحساسه بالمسئولية ومكانته حول رسالته والدور المهيئ نفسه عليه، هذه هي القمة.. هذا ما جعل خصومه يحكمون عليه.فعندما تتداعى أمة تتداعى عن الحقائقِ الواقعية فتفقد حقَّها في تغيير مصيرها، وتعجب بالخصم جدًّا لدرجة أنها تُؤيده وتُقلده في كل شيء صدر عنه خطأً كان أو صوابًا، فتوجد قله قليلة تُمثِّل المثل العليا لتنهض بالأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء وتدعو للعدل والإحسان وصوت ضميرها يُعلن أنه (لا أفعل الشر)، مثل لذلك الصحابي بلال في رسالته لقريش "أحد أحد" أي مهما أكرهتموني لن أشرك عن عبادة ربي أبدًا، فعندما تُدرك الدور الذي ينتظرها لتقوم به والمكانة التي رُشحت لها صوت ضميرها ينادي أن لن أجعلك تفعل الشر أبدًا ما حييت، فهي تنشد صلاح العالم.


فالخصم يحاول تغييبك بقدر ما يستطيع عن المكانة والعمل الذي تريد أن تقوم به والدور الذي ينتظرك والفاعلية التي رُشحت لها فقد هيئوك لأمر لو عملت له تنجو بنفسك وأعمالك، فالبساطة والواقعية تعطي الأمة المهابة والتكيف في الأزمات التي تواجهها.


هذه المعاني التي أراد الإمام البنا أن يزيح الغموض عن غايته.. "نحن نريد أن نستبدل بذلك النظام الاجتماعي الفاسد بنظامٍ خيرًا منه تحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وشعبها، يؤيدها شعب متحد الكلمة قوي الإيمان متوقد العزيمة".


وهكذا ببساطة يشرح الإمام الغاية التي يسعى إليها، وكما قال إن قوة التنفيذ جزءٌ من تعاليم الإسلام التي عبَّر عنها في رسالة (بين الأمس واليوم): "وإذا قيل لكم إلامَ تدعون..؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه".


ووضح صورة الواقع الأليم فقال إنه "بقي النظام وزال الإمام- لأن النظام يحتاج إلى إمام يحميه-، واستمرَّ الدين وضاعت الدولة وازدهر التشريع وذوي التنفيذ.. أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان؟!".


وأشار الإمام البنا إلى أن قوة الأمة في مواجهة الظلم يجب أن تستبدل نظامًا بنظام وحكومةً بحكومة، فالحكومة المسلمة تؤيدها أمة مسلمة وحكومة مسلمة حازمة تهب نفسها لوطنها وقومها يؤيدها شعبٌ متوقدُ العزيمة قوي الإيمان متحد الكلمة.


وذلك لإزالة الغموض عن الغاية لكل مَن يعمل في حقل العمل الإسلامي، فالغاية حسنة رفيعة لكن الوسائل هي التي تؤكد ذلك فأراد أن يزيح الغموض عن الغاية حتى تتحقق قضية الاستمرار وتحمل التبعات وعذابات الطريق ونتائجه.


وعندما تحدَّث الإمام البنا عن باقي الجماعات الموجودة التي تعمل في الساحة قال ليس بيننا وبينهم أي اختلاف أو لا يُفرِّق بيننا وبينهم أي اختلاف فقهي أو خلاف مذهبي، فكلنا يدعو إلى الإصلاح وعدم التشرذم والتفرق، ثم بدأ يتكلم بعد ذلك عن وسيلة تحقيق هذه الغاية، وكما ذكرنا أنه قال: "ويوجد بعض الوسائل لا نفصح عنها الآن ولكن في وقتها"، فالواقعية والارتباط باللحظة التاريخية الراهنة تعطي كل وسيلة حقَّها في التطور، فكان الإمام البنا حريصًا أن لا يحدث خطأ ما ندفع له الثمن باهظًا؛ لأن الحقائق المتفق عليها أن الإسلام له ثقله التاريخي والاجتماعي في منطقتنا هذه، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك، والكل يحتمي فيه سواء الدعاة أو الخصوم أو الرجل العادي وهو رجل الشعب؛ وبالتالي أي منا وكل مَن يريد أن يعمل للإسلام لا يستطيع أن ينسلخ من ذلك التاريخ، وتصبح التجربة محسوبة عليه، وخاصةً ليس هناك أحد يبدأ من الصفر.


وكما قال الإمام إنه استفاد من تجارب كلِّ مَن سبقه بالعمل للإصلاح من السنوسية بالمغرب، والوهابية في جزيرة العرب، والدهلوية في الهند، والمهدية في السودان.. إلخ.


وحركات الإصلاح التي سبقت الجماعة في عالمنا الإسلامي من حركات التجديد محسوبة عليك، فأي تجربة سابقة أنت محاسب عليها وتكرار الخطأ يعني مقتلاً سريعًا، فلا تستطيع أن تنسلخ منها، والتعصب الكبير الذي يواجهه العمل الإسلامي المعاصر الآن وعدم القدرة على تحقيق النتائج وابتعاده، وبينه وبين العواقب والنتائج بون شاسع؛ وذلك كله يرجع إلى أن الجميع يعمل محتميًا بالإسلام، فبالنسبة للدعاة يعملون للإسلام وحقوقه، والخصوم يعملون للإسلام، فالخصوم من سلطاتٍ وأنظمة يعملون للإسلام ويحاربون كل مَن يخرج عنه- من وجهة نظرهم-؛ لذلك يصف الخصومُ العاملين للدعوةِ بالخوارج، وهذه الكلمة موجودة من أعوام، ففي الستينيات كان يسمون الإخوان الذين قُبض عليهم بالأزالقة الخارجين من وجهتهم هُم؛ لأنهم خارجون عن غايتهم ووسائلهم في العمل للإسلام.

الجمعة، 16 مايو 2008

الإسراء والمعراج.. عبر وعظات

إن تذكرنا لمواقف ومناسبات من سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، إنما يكون للعبرة والعظة والتأسي، لذلك ينبغي علينا أن نحاول جاهدين أن ننزل سيرته صلى الله عليه وسلم المنزلة المستحقة والواجبة؛ ولنستدعي أحداثها دائمًا أو كلما دعت الضرورة أو حلت مناسبة- على أقل تقدير- لنقف على أفعاله- صلى الله عليه وسلم- وتصرفاته لتكون لنا نبراسًا يضيء الطريق ويهدي الضال ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب).

فمن المعلوم أن من المعجزات التي أعطاها الله تعالى لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- الإسراء وهو انتقاله من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم المعراج وهو عروجه إلى الملأ الأعلى ووصوله إلى الجنة، والمقصود من هذه الرحلة المعجزة تكريم النبي وإطلاعه على عجائب خلقه.

فحادثة الإسراء والمعراج من أهم الأحداث التي مرت بالإسلام منذ نشأته، وذلك لكونه حادثًا فريدًا يصعب على العقل البشري المجرد تصديقه.. وإذا لم يكتنف هذا العقل إيمان عميق لصعب عليه استيعاب هذا الحدث؛ لذا نجد أن من الصحابة من فتنوا في هذا الحادث، وفي المقابل نجد أن من تشبع بالايمان وعاشه وعايشه قد تقبل الأمر ببساطة كبيرة كما فعل سيدنا- الصديق- أبو بكر.

وسنحاول هنا أن نتناول بعض العبر والعظات والتأملات لهذا الحادث الفريد للذكرى عسى الله أن ينفعنا بها وأن نقتدي بالمصطفى- صلى الله عليه وسلم- وصحابته ولنأخذ من هذا الحادث الدروس التي تعيننا على طريق الدعوة الطويل الشاق.

1) مكانة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: فهذا الحادث قد أوضح وبصورة واضحة جلية مكانة النبي- صلى الله عليه وسلم- ورقيه لمكانة لم يرقَ لها أحد بهذه المعجزة العالية، ورقى مرقى لم ترقَ إليه الرسل والأنبياء جميعًا، ونال منزلةً لن يحظى بمثلها أحد من أهل السموات والأرض. فهو خاتم وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

وكما قال سبحانه وتعالى تكريمًا لنبيه المصطفى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فالعبودية لله هي أرقى درجات الكمال الإنساني، قال العلماء: لو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- اسم أشرف منه لسماه تلك الحالة، وقال القشيري: لمَّا رفعه الله إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعًا للأمة.

كما أنَّ في إمامته- صلى الله عليه وسلم- للأنبياء أكبر دليلٍ على مكانته الرفيعة وعلى كونه خاتم الرسل والأنبياء وعلى دور الإسلام وأمته في الشهادة على الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.

وبنظرةٍ أخرى ودرس آخر في أثر هذه المكانة السامقة والمعجزة الفريدة عليه، هل تغيَّر من خُلقه شيء؟؟ من تواضعه.. من أدبه.. من حسن معاشرته للناس.. من تفانيه في الوفاء لرسالته.. من رضائه بحاله التي كان عليها قبل الإسراء الرائع والمعراج الفريد، هل تعالى على أحدٍ من المسلمين؟؟ هل اختصَّ نفسه بشيء لم يحط به أحدًا من المسلمين؟؟ هل خاشن مَن يدعوهم إلى الإسلام؟؟. هل ركن إلى هذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة السامقة ولم يبذل ويضحي من أجل رسالته ودعوته؟

أعتقد أن أجابة هذه الأسئلة وغيرها واضحة جلية لكل ذي لب، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم برغم هذه المنزلة وتلك المكانة في قمةِ التواضع واللين في أيدي الجميع والأخذ بالأسباب وأعطى من نفسه وأهله أروع الأمثلة في البذل والتضحية.

2) الصبر والثبات: فقد أعطى- صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في صبره وثباته على الإيذاء من كفار قريش وجهالتهم عليه وما تضجر، بل صبر واحتسب.. كما صبر على فراق الأحبة الداعمين له أبو طالب وخديجة.

كما أن هذا الحادث الفريد كان اختبارًا لصبر وثبات وصدق المؤمنين، وتمحيصًا لصفِّهم وامتحانًا ليقينهم، ولثبوت العقيدة في وجدانهم، فالحدَث فوق مستوى العقول البشرية، يحتاج إلى مؤمن صادق الإيمان، لا يُزعزع من يقينه أشد الأحداث ولا أخطرها.. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

3) تنقية الصف: كما قلنا من قبل فإن الحدَث فوق مستوى العقول البشرية؛ لذلك نجد أن الإسراء والمعراج امتحانًا للمسلمين وتنقيةً للصف؛ استعدادًا لما هو آت.. فقد فُتِن بعض الذي أسلموا وارتدَّ مَن ارتد!

يقول الإمام "ابن كثير" فيما رواه عن "قتادة": "انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكةَ فأصبح يخبر قريشًا بذلك، فذكر أنه كذبَه أكثرُ الناس، وارتدَّت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصدِّيق إلى التصديق، وذكر أن الصدّيق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال إنّي لأصدقه في خبر السماء بُكرةً وعشيًا، أفلا أصدقه في بيت المقدس، فيومئذٍ سُمي "أبو بكر الصديق".

فنجد أن الإسراء والمعراج حدث قُبَيلَ الهجرة إلى المدينة، وترك الديار والأهل والوطن؛ وتكوين دولة الإسلام؛ ليكون اختبارًا للمؤمنين وتدريبًا لهم على حسن الاستجابة لله عز وجل، فهي مرحلة جديدة، كلها جهاد وكفاح في سبيل الله، فهي مرحلة تحتاج إيمان ثابت إيمان لا تعبث به الدنيا ولا تزلزله الجبال إيمان قد استقام على حقيقة منهج الله عز وجل.

4) معية الله: فالله عز وجل أوضح لنبيه- صلى الله عليه وسلم- أنه معه وناصره ومعينه في أحلك الظروف وأنه لن يخزيه أبدًا، ففي ذات الرحلة وكنهها عناية ربانية عظيمة.. ومثال آخر على معية الله لنبيه حين طلبت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف لها بيت المقدس مع ملاحظة أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قد جاءه ليلاً ولم يكن قد رآه من قبل يقول عليه الصلاة والسلام: "فأصابني كربٌ لم أصب بمثله قط"، أي أن الأمر سيفضح أي النبي عليه الصلاة والسلام سوف يتهم بالكذب ولكن حاشا لله أن يترك نبيه ومصطفاه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: فجلَّى الله لي بيت المقدس فصرت أنظر إليه وأصفه لهم باباً بابًا وموضعًا موضعًا.. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾.

5) ثقة الجندي بقائده (موقف سيدنا أبوبكر): فقد كانت ثقة سيدنا أبو بكر في قائده ورسوله كبيرة وعظيمة بدرجةٍ لا تهزها أو تنال منها أي أحداث مهما عظمت، ففي هذا الموقف الذي ثبت فيه "أبوبكر" عندما كذَّب أهل مكة ما حدَّث به الرسول عن الإسراء لأعظم دليلٍ على هذه الثقة.

فقد ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: أرأيت ما يقول صاحبك إنه يقول: إنه أُسري به إلى المسجد الأقصى، ونحن لو أردنا أن نذهب هناك لقطعنا مسيرة كذا وكذا، فما رأيك؟ قال أهو قال ذلك؟ قالوا: قال. قال: "أشهد إن كان قال ذلك فأنا أصدقه، إنا نصدقه في أعظم من ذلك، نصدقه في خبر السماء يأتيه وهو جالس بين ظهرانينا".

ولذلك كان هذا اللقب العظيم لقب الصديق على مَن يستحق، وأصبح في أرض الله لا يعرف بهذا اللقب بعد أنبياء الله إدريس ويوسف عليهما السلام إلا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه.

6) الدعوة أولاً: فهنا درس لكل صاحبِ هَمٍّ لكل صاحب قلب مكلوم ألا يلتفت قلبه إلا إلى الله عز وجل، فقد كان رسول الله- عليه الصلاة والسلام- يحمل هم الدنيا كلها ويحمل أمانة تنوء بها الجبال، ماتت زوجه خديجة التي كان يأوي إليها عند تعبه، مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه كان يبحث عن رجال صُدق يعينونه في تبليغ أمر دعوة الله عز وجل ذهب إلى ثقيف ولكنها ردته ردًّا سيئًا وأغرت به السفهاء فضربوه بالحجارة حتى أدمت قدميه الشريفتين لجأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى حائط وأخذ يناجي رب العزة سبحانه: حتى إنه دعا بدعائه الشهير "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.. إلهي أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تكلني إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل عليَّ غضبك أو أن تحل بي عقوبتك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله".

7) الدعوة إلى الله في كل الظروف: وهذا هو نهج الرسل والأنبياء لانشغالهم بدعوتهم وأنها تعيش في وجدانهم، ففي أشد فترات الحزن والأسي التي تعرَّض لها النبي- صلى الله عليه وسلم- حين ذهب إلى الطائف ليعرض نفسه عليهم، نجده يدعو الغلام إلى الله ويعود بمكسب كبير أن هدى الله به واحدًا.. وهذا يذكرنا بموقف سيدنا يوسف داخل السجن، إنها نفس الروح والعزيمة والإرادة التي يبثها أنبياء الله في الأرض ليقتدي بها الناس جميعًا.

إنها روح الإصرار على تبليغ الرسالة مهما كانت العقبات ومهما كان التسفيه والنيل من شخص ومكانة الداعية.

وفي هذا درس للدعاة إلى الله عز وجل أن يبلغوا أمانة الله تعالى رضي الناس أم غضبوا، فرسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"، وإذا كان أنبياء الله عزَّ وجل يتهمون بالكذب والسحر والجنون فليس في ذلك غرابة بعد ذلك أن يتهم الدعاة إلى الله في واقعنا بالتطرف بالرجعية والتأخر.

8) وحدة رسالة الأنبياء: وأنهم جميعًا يدعون لدينٍ واحدٍ ورسالةٍ واحدةٍ وهي الإسلام، فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل، الأنبياء إخوة ودينهم واحد: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].

وكان أكبر رمز لذلك صلاته إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى، ولها دلالة أخرى، أنَّ النبوة والرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا رسالة: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: من الآية 40).

9) مكانة الأقصى ودورنا تجاهه: يجب أن يشغل بالنا اليوم أحوال المسجد الأقصى، وكيف نستعيده مرة أخرى، نستعيد ما ضاع منا من أرض فلسطين بمختلف الطرق والوسائل، هذا هو الأمر الحتم والهمُّ الكبير، فهذا هو بدء الطريق، وكل من سار على الدرب وصل، هذه ذكرى من الذكريات كريمة، وآية من آيات الله عظيمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).

فقضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى وجرحهم النازف من القلب ومنذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والدليل القاطع على موقف العالم الغربي الظالم والمنحاز ضد قضايا المسلمين، والضارب عرض الحائط بكل المبادئ والقيم والشعارات التي يرفعها من حرية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، ورفض العنصرية، وحق الشعوب في الكفاح المسلح؛ من أجل إزالة الاحتلال عن أراضيها.. كل هذه المبادئ يتنكر لها الغرب، ويقف داعمًا الاحتلال الصهيوني الإرهابي، العنصري الاستيطاني الدموي لأرض فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى، واليوم يكشف الغرب مرةً أخرى عن حقيقة مشاعره نحو الإسلام والمسلمين ولعل ما يحدث في فلسطين ولبنان والعراق وافغانستان لخير دليل على ذلك.

10) دورنا تجاه المقدسات: لقد تأمل العلماء الربط في إسراء النبي- صلى الله عليه وسلم- من مكة البيت الحرام إلى بيت المقدس فذكروا أن المسجد الحرام بمكة المكرمة هو رمز للإسلام لدين الله عز وجل وبيت المقدس هو رمز لحال المسلمين.

فما يجري في تلك الأرض هي علامة صحوة المسلمين أو غفلتهم فالأقصى وأهله في رباط إلى يوم الدين، وبمقدار تفاعلنا وانشغالنا به يكون مقدار تقربنا إلى الله عز وجل أو بعدنا عنه. فالمسجد الأقصى لن يتحرر إلا على أيد متوضئة طاهرة كريمة، أما الأيدي التي يحمل أصحابها أفكارًا منحرفةً وعقائد فاسدة مثل هذه الأيدي لا يُبارك الله فيها وحاشا لله أن يكتب لها النصر والتأييد مصداقًا لقول النبي- عليه الصلاة والسلام-: "لتقاتلن اليهود فيختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله".

11) الالتجاء إلى الله وقت الشدة: فها هو المصطفى- صلى الله عليه وسلم- يبرأ من حوله وقوته إلى حول الله قوته، وهذا دأب الأنبياء والصالحين والدعاة إذا ادلهمت بهم الخطوب أن يلجأوا إلى الله دون سواه ويطلبوا العون والمدد منه دون غيره. ويأتي حادث الإسراء والمعراج إيناسًا للمصطفى عليه الصلاة والسلام وترسيخًا لهذا المعنى في النفوس ليلجأ الدعاة إلى ربهم وقت الشدة.. فإذا أخلصوا توجههم وأخذوا من الأسباب المعينة- ماديةً ومعنويةً- فسيروا من آيات الله ما تقر به أعينهم.

12) البعد عن المعاصي: خارقة الإسراء والمعراج تضمنت فيما تضمنت مشاهد لألوان من الناس سيعذبون يوم القيامة، بسبب معاصٍ خطيرةٍ عكفوا عليها في دنياهم: من ذلك الرِّبا، والفواحش، إلى آخر ما هنالك.

وعاد المصطفى- صلَّى الله عليه وسلَّم- ينبئُ أصحابه والأمة كلها بهذا الذي رآه من صور مختلفة للعذاب الذي سيناله مقترفو هذه الآثام يوم القيامة، العاكفون على كثير من الموبقات التي حذَّر الله عزَّ وجلَّ منها، وفي هذا درس لنا للابتعاد عن هذه الموبقات. ووجب علينا أن نسأل أنفسنا في هذه المناسبة أين نحن من الوقوف في وجه الفواحش؟ أين نحن من الوقوف في وجه الطريق إلى هذه الفواحش؟ أين نحن من استثارة العوامل التي تدعو إلى هذه الفواحش؟ وما دورنا لمقاومة هذه الفواحش في نفوسنا ومن ثم في مجتمعاتنا.

إن ذكرى الإسراء والمعراج لها دلالاتها الاعتقادية والسلوكية والأخلاقية، والاحتفال بهذه الذكرى إنما يعني الالتزام بهذه المعتقدات، ومن ثم الانضباط الصادق بالسلوكيات المنبثقة عنه، وهكذا يكون صدق الاحتفال والاحتفاء بذكرى الإسراء والمعراج.

إننا لن نستطيع حصر الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج في مقال أو عدة مقالات ولكنها إطلالة سريعة نُعذر بها إلى الله سبحانه وتعالى لنستفيد منها ونقدمها للأمة ودعاتها وشبابها ليقتدوا برسولهم- صلى الله عليه وسلم- في حياتهم العملية، ويتخذوا من الاحتفال ببعض المناسبات والإحداث الكبرى التي حدثت في سيرته نقطة انطلاق للتغير الإيجابي في حياتهم ولتذكر الأحداث واستخلاص العبر والدروس المستفادة منها لتضيء لنا الطريق.ونختم بعرض إجمالي لما رآه المصطفي صلى الله عليه وسلم في إسرائه ومعراجه لنتدارسها ونعيها ونتسخلص منها العبر والعظات.

من عجائب ما رأى الرسول
1. الدنيا : رآها بصورة عجوز (وذلك علامة على أنها تفتن المتعلقين بها وهي ليست على شيء)
2. إبليس: رآه متنحيًا عن الطريق.
3. قبر ماشطة بنت فرعون وشمَّ منه رائحة طيبة.
4. المجاهدون في سبيل الله: رآهم بصورة قوم يزرعون ويحصدون في يومين.
5. خطباء الفتنة: رآهم بصورة أناس تُقْرَضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار. (وهم الذين يخطبون بين الناس بالفتنة والكذب والغش).
6. الذي يتكلم بالكلمة الفاسدة: رآه بصورة ثور يخرج من منفذٍ ضيقٍ ثم يريد أن يعود فلا يستطيع.
7. الذين لا يؤدّون الزكاة : رآهم بصورة أناس يَسْرَحون كالأنعام على عوراتهم رقاع.
8. تاركو الصلاة: رأى قوماً ترضخ رءوسهم ثم تعود كما كانت، فقال جبريل: هؤلاء الذين تثاقلت رءوسهم عن تأديةِ الصلاة.
9. الزناة: رآهم بصورة أناس يتنافسون على اللحم المنتن ويتركون الطيب.
10. شاربو الخمر: رآهم بصورة أناس يشربون من الصديد.
11. الذين يمشون بالغيبة: رآهم بصورة قوم يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية.
12 - مالك خازن النار.
13 - البيت المعمور: وهو بيت مشرف في السماء السابعة وهو لأهل السماء كالكعبة لأهل الأرض، كل يوم يدخُلُهُ سبعون ألف ملكٍ يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبدًا.
14- سدرة المنتهى: وهي شجرة عظيمة بها من الحسن ما لا يصفه أحد من خلق الله، يغشاها فَراشٌ من ذهب، وأصلها في السماء السادسة وتصل إلى السابعة، ورءاها رسول الله صلى اله عليه وسلم في السماء السابعة.
15- الجنة: وهي فوق السموات السبع فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر مما أعدّه الله للمسلمين الأتقياء خاصة، ولغيرهم ممن يدخل الجنة نعيم يشتركون فيه معهم.
16-العرش: وهو أعظم المخلوقات، وحوله ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، وله قوائم كقوائم السرير يحمله أربعة من أعظم الملائكة، ويوم القيامة يكونون ثمانية، والعرش هو سقف الجنة وهو مكان مشرف عند الله قال الأمام علي كرم الله وجه: إن الله خلق العرش إظهار لقدرته ولم يتخذه مكان لذاته.
17- وصوله- صلى الله عليه وسلم- إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام: انفرد رسول الله عن جبريل بعد سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها من اللوح المحفوظ .
18- سماعه صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى الذاتي الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر.
19- رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لله عزّ وجلّ بفؤاده لا بعينه: مما أكرم الله به نبيه في المعراج أن أزال عن قلبه الحجاب المعنوي،فرأى الله بفؤاده، أي جعل الله له قوة الرؤية في قلبه لا بعينه؛ لأن الله لا يُرى بالعين الفانية في الدنيا، فقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا".

رسالة إلى الإمام البنا في ذكرى استشهاده


بقلم: وليد شلبي*
ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا هذا العام تختلف عن الأعوام السابقة؛ وذلك لكون الدعوة تمرُّ في هذه الأيام بمحنة سبق وتنبَّأ بها من بدايات الدعوة وأرشد إليها أتباعَه؛ ليكون الجميع على بيِّنة ونور من حقيقة الدعوة وطريقها.

وهذا يؤكد أن الإمام الشهيد- رحمه الله- ما زال حاضرًا فينا، بمبادئه وأفكاره، ورجاله الذين ربَّاهم على فهم الإسلام، وهذا ما تؤكده الأحداث التي تمر بها الدعوة الآن، والتي مرَّت بها من عشرات السنين بل ومن آلاف السنين، فهذه المحن هي سنة الدعوات، من لدن آدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

فإذا كان البنَّا غائبًا عنا بجسده، فهو في قلوبنا وعقولنا، ولا يفارقنا بمبادئه وقيمه، التي أرساها منذ عشرات السنين، ونظل ندعو له آناءَ الليل وأطراف النهار على ما بذل وضحَّى في سبيل نصرة دين الله، متذكرين مبادئه التي أرساها ودلَّنا عليها بفهمه العميق لمبادئ الإسلام وقيمه.

نُشهِد اللهَ أنه لم يخدع ولم يضلل محبيه ومتبعي منهجه، فمنذ عرفنا طريق الدعوة وتتلمذنا على أيدي أساتذتنا ونحن نتعلم وندرس حقيقة الدعوة كما رسمها من فجر الدعوة، رابطًا بينها وبين دعوة الإسلام الأولى، بل وبين دعوات رسل الله جميعًا، ونذكر قوله في رسالة (بين الأمس واليوم): "وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحدَّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبارَ الشبهات وظلمَ الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بكم كل نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومقيّدين بأموالهم ونفوذهم، وستدخلون بذلك ولا شكَّ في دور التجربة والامتحان، فتُسجَنون وتُعتقلون وتُنقلون وتُشرَّدون وتُصادَر مصالحكم وتعطَّل أعمالكم وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين.. فهل أنتم مصرُّون على أن تكونوا أنصار الله؟!".

ولعل ما يثار حول الدعوة من شبهات وظلم واعتقال وتحفظ ومصادرة وتقييد للحريات- بل وإعدام- يؤكد ما ذهب إليه من قبل، ولكن نعاهد الله أن نكون أنصار الله أو هكذا نحاول أن نكون بإذن الله، باذلين ما نستطيع لتحقيق هذا المعنى في ذوات نفوسنا وفي واقع حياتنا.

فما استشرفه الإمام الشهيد من عشرات السنين وقع ويقع وسيقع للدعوة والدعاة على مرّ العصور، وقد وطَّن الإخوان أنفسهم على ذلك وتربَّوا عليه وأعدوا أنفسهم لمواجهته، وإن كانوا لا يتمنون لقاء العدو ولا الابتلاء، ولكنها سنة الله للدعوات.


لقد أعد الإخوان أنفسهم بزيادة القرب من الله والاعتماد عليه والالتجاء إليه دون غيره والتمسك بتعاليم الدين الحنيف وبتوثيق روابط الأخوَّة والحب في الله كما عوّدهم ودرّبهم في حياته، وإن كل داعية من أبنائه ماضٍ على الطريق الذي رسمه، مهما كانت العقبات أو التضحيات تقربًا وطاعةً لله؛ مما أدَّى لتكوين أجيال تعمل لإعلاء كلمة الله وترسيخ معنى الحق في إطارٍ من الوُدِّ والإخاء.

وقفات مع غزوة تبوك



بقلم: وليد شلبي*
تعد غزوة تبوك من أهم الغزوات في تاريخ الإسلام على المستوى الخارجي والداخلي للدولة الإسلامية الوليدة. فتم فيها الردع لدولة عظمى في ذلك الوقت، كما تمَّ فيها الكشف عن العناصر المنافقة المثبطة للمؤمنين وكشفهم وفضحهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم الدين. فتم بعدها استقرار الدولة وبسط هيبتها ومكانتها على مختلف المستويات. وكما يقول الشاعر:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العــبر ضل قوم ليس يدرون الخـبر
فنحن حين نتدارس سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إنما يكون للعبرة والاتعاظ والاقتداء ونحاول هنا أن نقف بعض الوقفات مع غزوة تبوك لاستخلاص بعض الدروس المستفادة منها.

لماذا سميت بغزوة العسرة؟
لقد مرت غزوة تبوك والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة بالكثير من الصعاب التي جعلت المؤرخين يطلقون عليها غزوة العسرة ومن هذه الصعوبات، صعوبة التمويل اللازم لتجهيز الجيش، وقد حثَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- المسلمين للتبرع لتجهيز الجيش وحضهم على ذلك، وتسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم، فها هو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله، وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله، وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية، ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهَّز ثلث الجيش وحده، حتى قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حقِّه: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" قالها مرارًا.

كما مثلت شدة الحر والشمس المحرقة وقلة الماء صعوبة أخرى؛ حيث كان يؤدي إلى عسر المسير ومشقة الانتقال، وقد صوَّر القرآن لنا هذا الأمر: ﴿وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾.. كما أن ثمارهم قد أينعت وحان وقت قطافها مما سبب عبأ آخر عليهم.في حين مثلت طول المسافة من المدينة إلى تبوك - والتي تبلغ أكثر من تسعمائة كيلومتر، والرحلة تستغرق شهرًا ذهابًا وإيابًا- صعوبة لا يمكن إغفالها. ولو أضفنا لها شدة بأس العدو، فالعدو هو الروم إحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، فأعدادهم عظيمة، وأسلحتهم كثيرة، وجيوشهم جرارة، لعلمنا مدى الشدة التي عانى منها المسلمون ومدى الصعوبة التي واجهوها.

ولعل الدرس المستفاد هنا أنه ومع هذه العقبات، فقد سارع المسلمون بقيادة النبي- صلى الله عليه وسلم- بالتجهز والخروج والتبرع بأموالهم لسد العجز في التمويل؛ إيمانًا منهم بقدسية الغاية وربانية الهدف.

ويكفي أن نعلم أنه لطول المسافة تحتم أن يكون الجيش من الفرسان وراكبي الإبل، وبعد التجهز خرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقود جيشًا قوامه أكثر من 30 ألفًا من المسلمين ما بين 10 آلاف فارس وبقية الجيش يتعاقب كل ثلاثة على بعير واحد.

خريطة المجتمع المسلم قبل الغزوة
لقد عانى الصف الإسلامي قبل الخروج من إرجاف المنافقين ومحاولتهم الدنيئة تثبيط همة المسلمين وشق صفهم وبذر الوهن في قلوبهم، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في صف ارتبط بخالقه وارتضى برسوله وآمن بعقيدته؛ ففشِلت كل محاولات أهل النفاق والزيغ وكانت الغزوة فرصة عظيمة لتميز الأمة في مبادئها ولتمايزها في صفها، فأصبح المجتمع كالآتي:
1- أهل السبق والإيمان من المهاجرين والأنصار الذين تباروا في الخروج للغزو والتبرع لتجهيز إخوانهم الذين لا يملكون النفقة.
2- أهل الإيمان الذين قصرت بهم النفقة لفقرهم فلم يستطيعوا الخروج وهم البكاؤون ﴿... الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾.
3- أهل إيمان، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تخلفوا عن الخروج من غير شكٍ ولا ارتيابٍ منهم.
4- المنافقون أهل الزيغ والضلال الذين تعاونوا مع العدو وتجسسوا على أهل الإيمان، وقد رجع أكثرهم من الغزو واعتذر بعضهم عن الخروج مخافة الفتنة كما زعم، وخروج البعض منهم محاولين استغلال الفرص لاغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم-.

وهذه الغزوة مليئة بالدروس والعبر التي نحتاج إليها في طريق دعوتنا إلى الله ونستخلص منها بعض هذه العبر عسى الله أن ينفعنا بها ويتقبلها خالصة لوجهه الكريم:
1) الجهاد بالمال: كانت غزوة تبوك أروع مثل على الجهاد بالمال وبذله رخيصًا في سبيل الله، ولقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الجهاد بالمال وإنفاقه لوجه الله وحده؛ ولأن الصدقة برهان للإيمان فقد بدأت مظاهر الابتلاء والامتحان تظهِر سوءات المنافقين، ويتجلى بها صدق الصادقين وإيمان المؤمنين، فلقد استجاب المؤمنون لنداء رسولهم- صلى الله عليه وسلم-، وضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في بذلهم وعطائهم، فهذا عثمان بن عفان- رضي الله عنه- جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استرخصها- رضي الله عنه- وبذلها عندما لامست أذناه صيحات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصحابة: "مَن جهَّز جيش العسرة فله الجنة، من جهز جيش العسرة فله الجنة"، وأعظم به- وربَّي- من مهر، فطالما في سبيل دخولها ركعوا، ولطلبها دعوا وتضرعوا، حتى أكبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما فعل عثمان- رضي الله عنه- فقال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم".

وجاء أبو بكر بماله كله وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وأنفق ألفي درهم، وجاء العباس بمالٍ كثير، وتتابع الناس بصدقاتهم بعد ذلك، ورأى فقراء المسلمين ما بذل أغنياؤهم فاشتاقوا إلى أن يبذلوا ويدفعوا، ما اعتذروا بفقرهم، وما تذرعوا بضعفهم، بل قدموا جهدهم من النفقة على استحياء، فهذا أبو عقيل يأتي بنصف صاع من تمر.

وهناك آخرون قد بلغوا من الفقرِ غايته، فهم ضعفاء لا يملكون شيئًا، ولكنهم بذلوا ما بأيديهم، وقدموا ما بوسعهم، فهذا عُلبة بن زيد بن حارثة لم يجد ما يتصدق به فرفع يديه إلى ربه والله يعلم صدقها، فقال: "اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على مَن ناله من خلقك"، فعندما جاء الصباح أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مناديًا ينادي: "أين المتصدق بعرضه البارحة؟" فقام عُلبة فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد قبل صدقتك".

وجاءت النساء بما قدرن عليه من صدقاتٍ وحليٍّ وخلاخل وقروط وخواتم، وألقينه بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، آثروا جنة عرضها السموات والأرض على تجملهن وتحليهن.

ويأتي سبعة من صحابةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بينهم عُلبة الآنف ذكره ليطلبوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما يركبون عليه معه في هذه الغزوة، فلا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، فيهم قال الله قرآنًا يتلى: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة: 92).

وهذا هو حال المؤمن الصادق في استجابته لدعوة الله ورسوله، وهذا هو حاله وقت الشدة، فيظهر طيب معدنه ويُري الله عزَّ وجل من نفسه خيرًا.. لقد ضرب الصحابة من أنفسهم أروع الأمثلة في البذل في هذه الغزوة وأعطوا للأمةِ درسًا بليغًا في الجهاد بالمال وبذله في سبيل الله والانصياع التام لأوامر الله ورسوله وهكذا يجب أن نكون.

2) خطورة المنافقين: لقد أوضحت هذه الغزوة خطورة المنافقين على الأمةِ وعلى الصف؛ فهاهم يشقون الصفَّ بإشاعتهم رُوح الوهن والضعف والتخاذل في وقتٍ أشد ما يكون الصف احتياجًا فيه للوحدة والتكاتف.. فمنهم مَن يقول "لا تنفروا في الحر".. ﴿وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون﴾، وبعضهم يلمز ويسخر من المتصدقين والمنفقين على الجيش ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ومنهم مَن يقول ائذن لي ولا تفتني.. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)﴾ (التوبة)، ومنهم من بني مسجدًا ضرارًا.. ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ..﴾ بل ومنهم مَن حاول قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- ‏﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾.. وسنقف هنا على حدثين فقط مما فعله المنافقون لتبيان خطورتهم على الأمة.
أ) مسجد الضرار: بنى المنافقون بالمدينة مسجدًا ليجتمعوا فيه ويتآمروا على الإِسلام والإِضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، وقد زعموا أنهم بنوه توسعة للمسلمين ولابن السبيل والضعفاء والعاجزين، وطلبوا من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يصلي فيه، ليخدعوا الناس بهذا العمل.

بعد عودة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تبوك همَّ أن يُصلي في هذا المسجد، ولكن الله تعالى نهاه عنِ ذلك وكشف نوايا ومكر المنافقين وقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)﴾ (التوبة)، وبهذا كشف الله زيف وكذب المنافقين، ثم قام المسلمون بهدم وإحراق هذا المسجد.
ب) محاولة اغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم-: في طريق العودة من تبوك، وعند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود زمام ناقته، وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة، فبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك يقول الله- تعالى-:‏ ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ (‏‏‏التوبة‏: ‏74‏).

3) عدله- صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع المُخَلَّفين: كانت هذه الغزوة- لظروفها الخاصة بها- اختبارًا شديدًا من الله، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته عز وجل في مثل هذه المواطن، حيث يقول‏:‏ ‏﴿‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏﴾ ‏‏‏(آل عمران‏: ‏179)‏‏.

فقد خرج لهذه الغزوة كل مَن كان مؤمنًا صادقًا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلَّف وذكروه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لهم‏: "‏دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه" (رواه الحاكم في مستدركه)، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبًا، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسًا.. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلَّفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم.

المتخلفون كانوا ثلاثة أصناف:
الأول: هم الضعفاء والفقراء ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى تبوك وهؤلاء معذورون.. ﴿‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏﴾ (‏‏‏التوبة‏:‏ 91‏)‏. وقال فيهم رسول الله حين دنا من المدينة‏:‏ "‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ"‏، قـالوا‏:‏ يا رسول الله، وهــم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وهم بالمدينة".. (رواه البخاري).

الثاني: مؤمنون صادقون تخلفوا بدون عذرٍ واعترفوا بذلك وهم: (كعب بن مالك- هلال بن أمية- مرارة بن الربيع)- رضي الله عنهم- وقد أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- الناس بمقاطعتهم، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبعد خمسين يومًا تاب الله عليهم ونزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾ (التوبة).

الثالث: المنافقون الذين تخلفوا بدون عذر صادق وقد قبل منهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله.

ولما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون- وهم بضعة وثمانون رجلاً- فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.. فيعاتبه ربه بقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)﴾ (التوبة).

نجد أنه لم يتعامل- صلى الله عليه وسلم‏- مع المُخَلَّفين معاملةً واحدةً ولكنه تعامل مع كلِّ حالةٍ مع ما يناسبها وما يتناسب وطبيعة مرتكبها.. فالمؤمنين بخلاف المنافقين، ففي حين نجده- صلى الله عليه وسلم‏- يتعامل بمنتهى الحزم والشدة مع المنافقين نجده يتعامل بأسلوب مختلف مع المؤمنين؛ فنجده يعفو عن بعضهم ويرجئ الآخر لأمر الله ليقضي فيهم، وهو ما حدث مع الثلاثة الذين خُلِّفوا.. وهذا درسٌ من المصطفى للقادة في فنِّ التعامل مع الناس ومعاملة كل واحد بما يناسب فعله وبما يناسب وضعه وطبيعته ولا يترك الأمر على عواهنه ويعامل الجميع معاملة واحدة، كما لا يمكن إغفال فضل السبق والأعمال الصالحة في تقييمنا لأخطاءِ الآخرين حتى وإن كانت غير مبررة.

4) أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة: وكتب الله العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: 40).

5) أسلوب العدو في اسمتالة الصفوف المنافقة: ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾؛ لذلك يجب الحذر من المنافقين وليبحث كلنا منا في نفسه لئلا يكون فيه خصلة من نفاقٍ تكون بذرة تنبت وتترعرع في داخله وهو لا يدري، وقد تؤتى الأمة من قِبله في يومٍ من الأيام؛ لذلك كان من توجيه المصطفى لأصحابه الدعاء "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئًا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه".

6) لا يشترط فيها تكافؤ القوى في مواجهة الأعداء: يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، و يتعلقوا به، ويثبتوا، ويصبروا، وعندها يُنصروا بإذنه وحوله وقوته، فها هو سلفهم ابن رواحة يقول: "والله ما نقاتل الناس بعَددٍ، ولا عُدد، و ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به"، ففي معظم الغزوات والمعارك الإسلامية الكبرى لم ينتصر المسلمون عن قوةٍ ظاهرةٍ على العدو بقدر ما كانوا ينتصرون بقوةِ قربهم من الله وطاعتهم له؛ ولذلك كانت من وصاياهم لبعضهم "أننا لا نخشى عدونا بقدر ما نخشى ذنوبنا".

ولنا في ما يحدث في فلسطين ولبنان من موجهة المقاومة المسلحة بأسلحةٍ لا تُقارن بأسلحة العدو عددًا وعدة ولكنها تتفوق عليه بإيمانها بربها وصلتها به؛ لذلك هزمته وتهزمه وستستمر في هزيمته بإذن الله ما دمنا متمسكين بمنهجنا الإسلامي وصلتنا بربنا.

7) الإيجابية والتغلب على العوائق: لقد نفر الصحابة في إجابة داعي الله- كلٌّ على حسب طاقته ووسعه- ونضرب هنا بعض الأمثلة ممن تعاملوا بإيجابيةٍ مع الموقف، ومنهم موقف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه في المدينة على النساءِ والصبيان، ولكن لم يطق صبرًا فلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمره رسول الله بالرجوعِ وقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! غير أنه لا نبي بعدي".


وفي التغلب على العوائق يأتي مثل سيدنا أبو ذر حيث يبطئ به بعيره، فيأخذ متاعه ويحمله على ظهره ويلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يستبح لنفسه العذرَ للتخلفِ عن رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم-.

وهذا أبو خيثمة الأنصاري يصارع نفسه بين البقاءِ والخروج، فيدخل بستانًا له وقد رُش بالماء وزوجه فيه، فيقول: ما هذا بإنصافٍ، رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في السمومِ والحرورِ وأبو خيثمة في الظل والنعيم!! فلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففرح به ودعا له.. وهذا الموقف يُبيِّن لنا أن الصحابة كانوا يقاومون ويجاهدون أنفسهم وأهوائهم لتسلك طريق الحق وأنهم نماذج بشرية تُعاني مما نُعاني منه نحن في هذا العصر ولم يكونوا معصومين، لذا يسهل علينا الاقتداء بهم واتباعهم.

8) تنوع وسائل أعداء الله: فأعداء الله عبر العصور يطورون من وسائلهم لمحاربة الإسلام ويحاولون إيجاد ثغرة ينفذون منها للصفِّ المسلم لاختراقه وإضعافه، فنجد هنا أنهم أرسلوا لكعب بن مالك- رضي الله عنه-، يوم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بهجره أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكنَّ كعبًا المؤمن علم أنَّ هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة.. ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ﴾.

وهذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر، في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء ويترصدون، ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت!، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت!، أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب! قاوم وثبت على مبدئه ودينه ابتغاءَ وجه الله.

9) تأييد الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالمعجزات: في هذه الغزوة أيَّد الله سبحانه وتعالى نبيه بكثيرٍ من المعجزات، تثبيتًا للمؤمنين وتخفيفًا لمصابهم ولما لاقوه في هذه الغزوة من صعاب من بدايتها لنهايتها. ومن المعجزات التي شهدتها الغزوة:
إمطار السحاب ببركة دعائه: خرج المسلمون للغزو في جوٍّ شديد الحرارة، ولم يكن معهم ما يكفي من الماء، مما أدّى إلى شعورهم بالعطش الشديد، فانطلقوا يبحثون عن الماء من حولهم، لكنهم لم يجدوا له أثرًا، فاضطرَّ كثيرٌ منهم إلى ذبح راحلته وعصر أحشائها لاستخراج الماء الذي بداخلها، فلما رأى أبو بكر الصدّيق- رضي الله عنه- حال المؤمنين أسرع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: "رسول الله، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا "، فقال له: "أتحب ذلك؟"، قال: "نعم"، فرفع النبي- صلى الله عليه وسلم- يده إلى السماء، فما كاد أن يرجعهما حتى تجمَّع السحاب من كلِّ مكانٍ وأظلمت الدنيا، ثم هطل مطرٌ غزيرٌ، فارتوى الناس وسقوا أنعامهم، ومُلئت الأوعية التي كانت معهم، ولما غادروا المكان وجدوا أن تلك السحب لم تجاوز معسكرهم، والقصّة رواها ابن خزيمة في صحيحه.

إخباره بمكان ناقته التي ضلّت: في الطريق إلى تبوك نزل جيش المسلمين في مكانٍ للراحة، فافتقد النبي- صلى الله عليه وسلم- ناقته، وأرسل مَن يبحث عنها، ولمَّا لم يجدوها، قال أحد المنافقين: "أليس يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟"، فأوحى الله إلى نبيَّه بمقولة ذلك المنافق، فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأخبرهم الخبر، ثم قال: "إني والله لا أعلم إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني الله عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها"، فانطلق الصحابة إلى ذلك الموضع، فوجدوها وأتوه بها.

تكثير الماء في تبوك: في طريق الذهاب أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم– من معه أنهم سيصلون إلى عين ماءٍ في تبوك، وطلب منهم أن يتركوها على حالها ولا يمسُّوها، فلما وصلوا إلى تلك العين أسرع إليها رجلان واغترفا منها، فنقص ماؤها، ولما علم النبي- صلى الله عليه وسلم- غضب من فعلهما، ثم طلب من الصحابة أن يأتوه من ماء تلك العين، فغرفوا بأيديهم قليلاً حتى تجمَّع لديهم شيء يسير، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغسل به يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فسالت بماء غزير حتى ارتوى الناس، والتفت النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى معاذ بن جبل- رضي الله عنه- وقال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد مُلئ جنانًا" رواه مسلم، وكانت معجزةً عظيمةً تنبّأ فيها النبي- صلى الله عليه وسلم- بتحوِّل تلك المنطقة القاحلة إلى بساتين خضراء خلال فترةٍ وجيزة، وقد تحقَّق ما أخبر عنه- صلى الله عليه وسلم، وصارت منطقة تبوك معروفةً بوفرةِ أشجارها وكثرةِ ثمارها.

تكثير الطعام: أصاب الناس المجاعة نظرًا لقلة الزاد، وبعد المكان، فاستأذن بعض الصحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذبح الإبل والأكل منها، فأذن لهم، فجاء عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وبيَّن له أن ذلك سيتسبّب في قلّةِ الرواحل، واقترح عليه أن يأمر الناس بجمعِ ما لديهم من طعامٍ قليلٍ، ثم الدعاء له بالبركة، فكان الرجل يأتي بكفِّ التمر، وآخرُ يأتي بالكسرة، وثالثٌ بكفِّ الذرة، حتى اجتمع شيءٌ يسير، ودعا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يُبارك الله لهم في طعامهم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في المعسكر وعاءً إلا امتلأ، وأكلوا حتى شبعوا وبقيت زيادة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة" (رواه مسلم).

التنبّؤ بحال ملك كندة: حينما وصل المسلمون إلى تبوك لم يجدوا فيها أثرًا لجيوش الروم أو القبائل الموالية لها، فبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد- رضي الله عنه- إلى دومة الجندل، وأخبره بأنَّه سيجد زعيمها أكيدر بن عبد الملك وهو يصيد البقر، وفي تلك الليلة وقف أكيدر وزوجته على سطح القصر، فإذا بالبقر تقترب من القصر حتى لامست أبوابه بقرونها، فتعجَّب أكيدر مما رآه وقال لامرأته: "هل رأيت مثل هذا قط؟" قالت: "لا والله"، فنزل وهيَّأ فرسه، ثم خرج للصيد بصحبةِ أفرادٍ من أهل بيته، فرآه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقام بملاحقته، حتى استطاع أن يأسره، وقدم به على النبي- صلى الله عليه وسلم-، فصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله.

إخباره بالريح الشديدة: أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تبوك عن هبوب ريحٍ شديدة، وطلب من الناس أخذ الحيطة والحذر حتى لا تُصيبهم بأذى، وأمرهم بربط الدوابِّ وعدم الخروج في ذلك الوقت، ولما حلَّ الليل جاءت الريح، فقام رجلٌ من المسلمين من مكانه، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء، رواه مسلم.

إخباره عن موت أبي ذر: كان أبو ذرٍّ الغفاري- رضي الله عنه- ممّن تأخَّر عن الجيش في غزوة تبوك، ثم لحق به بعد ذلك، ولمَّا رآه النبي- صلى الله عليه وسلم- مقبلاً نحو الجيش يمشي وحده قال: "رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده"، ومضت سنين طويلة حتى جاءت خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فانتقل أبو ذر- رضي الله عنه- للعيش في منطقة "الربذة"، وعندما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه أن يقوموا بتغسيله وتكفينه ووضعه في طريقِ المسلمين عسى أن يمرَّ به مَن يقوم بدفنه، فأقبل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في جماعةٍ من أهل الكوفة، وما أن عرفه حتى بكى وتذكر النبوءة وقال: "صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"، ثم تولَّى دفنه بنفسه.

دعاؤه لرواحل المسلمين وتنبؤه بركوب أصحابه للسفن: في هذه الغزوة أُصيبت رواحل المسلمين بالإجهاد والتّعب، فشكا الصحابة ذلك إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-، ولما اقتربوا من مضيق وقف النبي- صلى الله عليه وسلم- على بابه وأمر المسلمين أن يمرُّوا من أمامه، وجعل ينفخ على ظهور الرواحل ويقول "اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف، وعلى الرطب واليابس، في البر والبحر"، فعاد النشاط إليها وانطلقت مسرعةً، حتى وجد الصحابة صعوبةً في السيطرة عليها.

وفي هذه الدعوة أيضًا إخبارٌ بأمر غيبيّ، وهو استخدام الصحابة للسفن في الغزو والجهاد، وقد أشار فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه إلى ذلك فقال: "فلما قدمنا الشام غزونا في البحر، فلما رأيت السفن وما يدخل فيها عرفت دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم-" رواه أحمد.

الخميس، 15 مايو 2008

واجبنا أثناء المحن والابتلاءات


بقلم: وليد شلبي*
المحن والابتلاءات والكروب من سنن الدعوات في كل وقتٍ وحين منذ خلق الله الأرض ومن عليها، أيًّا ما كان سببها أو المتسبب فيها، فهي سنة الدعوات وطبيعتها ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت)؛ لذا وجب على الدعاة والمصلحين أن يتعايشوا ويتعاملوا معها ما داموا على طريقهم ماضين وعلى نهجهم ثابتين.. فتكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا.. وفي ظل الهجمة المنظمة والمُهدفة والعاتية التي تتعرض لها الدعوة في كل وقتٍ وفي هذه الأوقات على وجه الخصوص؛ فقد توجَّب علينا أن نقف مع أنفسنا وقفةً نتذكر فيها بعض الآداب التي ينبغي علينا التحلي والتخلق بها في أوقاتِ الشدائد والمحن، لتعيننا على تجاوزها بل والاستفادة منها وتحويلها لنعمة بإذن الله.. وسنتحدث هنا سريعًا وباختصار على بعض هذه النقاط.

أولاً: التقرب إلى الله والإقبال على القرآن:
فلا بد لنا أثناء المحن والشدائد من أن نحسن صلتنا وعلاقتنا بالله فله سبحانه ومن أجله يقف الدعاة المواقف التي تُعرِّضهم للمحن، والله وحده المعين والرابط على القلوبِ والمثبت لها، ووسائل التقرب والالتجاء إلى الله كثيرة ولا نستطيع أن نُحصيها هنا، ولكن كل واحد منا أدرى بنفسه وبعيوبها وبما يُصلحها فيجب عليه الإكثار من الوسائل المعينة له على القربِ من الله.

القرآن العظيم الوسيلة الأولى وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيم.

نص الله على أنَّ وظيفةَ هذا الكتاب والغاية التي من أجلها أنزله منجَّمًا مفصلاً هي التثبيت، فقال- تعالى- في معرض الرد على شُبه الكفار: ﴿وقَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ورَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيرا﴾ (الفرقان: 32،33).

فالقرآن مصدرٌ للتثبيت والعون في المحنة لأنه يزرع الإيمان ويُزكي النفس بالصلة بالله، كما أنَّ تـلـك الآيات تنزل بردًا وسلامًا على قلب المؤمن الذي تعصف به رياح الفتنة، فيطمئن قلبه بذكر الله؛ ولأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يقوِّم الأوضاعَ من حوله، وكذا الموازين التي تُهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ولا تتناقض أقواله باختلافِ الأحداث والأشخاص، كما أنه يرد على الشبهات التي يُثيرها أعداء الإسلام من الكفارِ والمنافقين كالأمثلةِ الحية التي عاشها الصدر الأول.

ولننظر في أثر قول الله- عز وجل-: ﴿مَا ودَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى﴾ (الضحى: 3) على نفس رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وما هو أثر قول الله- عز وجل-: ﴿لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ (النحل: 103) لما ادَّعى كفار قريش أن محمدًا- صلى الله عليه وسلم- إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجارٍ رومي بمكةَ؟!

وما هو أثر قول الله- عز وجل-: ﴿أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ (التوبة: 49) في نفوس المؤمنين لما قال المنافق ﴿ائْذَن لِّي ولا تَفْتِنِّي﴾ (التوبة: 49)؟!.

أليس تثبيتًا على تثبيت، وربطًا على القلوب المؤمنة، وردًّا على الشبهات وإسكاتًا لأهل الباطل..؟

ومن هنا نستطيع أن نُدرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوةً وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا؛ منه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين مَن جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل.

ثانيًا: التحلي بأركان البيعة:
أركان البيعة العشرة التي ذكرها الإمام الشهيد حسن البنا (الفهم، الإخلاص، العمل، الجهاد، التضحية، الثبات، التجرد، الطاعة، الإخوة، الثقة) هي رباط أخلاقي ارتبط به الدعاة وألزموا به أنفسهم في أوقاتِ الرخاء، فعليهم أن يتمثلوه عمليًّا في أوقات الشدة، فهي تجمع مكارم الأخلاق الواجب على الداعية التحلي بها طوال حياته، وفي مختلف الظروف والأحوال، سواء كانت في أوقات الرخاء أو الشدة، وفي تحلينا بهذه الأركان قولاً وعملاً وسيلة من أكبر وسائل تصدينا وثباتنا في وجه أشد وأعتى المحن والابتلاءات بإذن الله.. فلنتأمل حال صفٍّ فاهمٍ لطبيعةِ دينه ودعوته مخلصًا وعاملاً ومجاهدًا ومضحيًا وثابتًا ومتجردًا لها وواثقًا في طريقة ومنهجه وقيادته ومحيطًا هذا كله بطاعة وأخوة صادقة.

ثالثًا: تعميق أواصر الأخوة ووحدة الصف:
فأهمية الأخوة عمومًا لا يمكن الجدال والمناقشة فيها، فما بالنا في أوقات الشدائد والابتلاءات، فنكون أحوج وأشد حاجةً لها، فالأخوة تُعين على الثباتِ على المحن وتُعين في اللحظاتِ الحاسمة حين يجد الإنسان مَن يعينه ويُذكره ويكون من العوامل المعينة على تثبيته، ولنعي الأساليب الخبيثة التي يحاول البعض استخدامها لإثارةِ الفرقة بين الدعاة أو على الأقل لإبعادهم عن أهدافهم السامية وتشتيت جهودهم.

رابعًا: الثبات والثقة:
الثبات والحفاظ على الثوابت الدعوية وعدم الحياد عنها وعدم الترخص فيها من أهم صفات وخصال الدعاة المخلصين لله، كما أنَّ الثقةَ بكل أنواعها- في وعد الله، النفس، القيادة، المنهج- من أهم عوامل اجتياز المحن والابتلاءات واستثمارها، فالداعية حين يثبت على ما يلاقيه في سبيل الله، فهو يتقرب إليه سبحانه راجيًا منه القبول وواثقًا في طريقه ومنهجه وواثقًا في وعد الله له في نهاية المطاف، كما أنَّ هذا من صفات الأنبياء والصالحين عبر العصور ثقةً وثباتًا طوال الطريق.. يقول الشهيد سيد قطب: "إنَّ موكب الدعوة إلى الله موغلٌ في القدم، ضاربٌ في شعابِ الزمن، ماضٍ في الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام.. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويُصيب الأذى مَن يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء.. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إنَّ نصرَ الله دائمًا في نهاية الطريق".

خامسًا: الالتفاف والتوحد خلف القيادة والتلقي منها وعنها:
فإذا كان من الواجب وحدة الصف في كلِّ الأوقات، فإنها أوجبُ في أوقاتِ المحن والشدائد والابتلاءات؛ لأن فيها تظهر معادن الرجال، والتوحد خلف القيادة في هذه الأوقات إنما ينم عن معدنٍ طيبٍ ونفيسٍ وإخلاص وتجرد، ولنكن عونًا للقيادة على العقبات والشيطان لا نكون عونًا للشيطان على القيادة والأفراد؛ وذلك لنجعل القيادة تؤدي واجبها وهي مرتاحةٌ نفسيًّا على الأقل لا أن تكون بين مطرقةِ الخارج وسندان الداخل، فالقيادة الشرعية- على أي مستوى- تحتاج منا لوقفةٍ جادةٍ مخلصةٍ أوقات المحن لنشد ظهرها وندعمها ونتقرب إلى الله بطاعتها.

سادسًا: عدم الالتفات والاهتمام بما يُشاع ويُثار من تُهمٍ وأكاذيب:
وهذا من أوجب واجبات الأفراد ألا يُثيروا القلاقل بين إخوانهم في الصفِّ بما يسمعوا من أراجيف مردود عليها، ولكن عليهم التبين والتوثق من القيادة أولاً ثم يكون رأيهم بعد ذلك: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)﴾.

وهذه ليست دعوةً لكبت الآراء وتحجيمها ولكنها لنفقه الأولويات في مواجهة الأزمات، فالأولى هو وحدة الصف وتماسكه أثناء الأزمة، ثم ليكن بعد ذلك تقييم وتقويم وإبداء الآراء بحرية ووضوح وشفافية، ولكن ليس في وقتِ المحنة والأزمة، فهذا يكون بعدها أولى وأوجب، ولنوحد الجهود والطاقات ولا ننجر نحو ما يريده البعض منا من التركيز على قضايا فرعيةٍ وخلافيةٍ وجدلية لتشتيتنا عن قضايانا الكبرى ومهامنا العظيمة.

سابعًا: الحيطة والحذر وعدم الفردية:
فإذا كان من واجب القيادة حماية الصف وأفراده والحفاظ عليه، فهذا ليس قاصرًا عليها وحدها، ولكنه ينسحب على الأفراد كذلك حتى لا يحدثوا أمرًا يتسبب في قلاقل للصف والأفراد، فضلاً عن أن يؤدي لإيذاء أي فردٍ من الأفراد بأي صورةٍ من الصور، وكذلك أيضًا عدم الفردية في الأفعال والأقوال لما في ذلك من خطرٍ قد يُسبب الكثير من المشاكل العملُ في غنًى عنها.. فعلى الأفراد التحلي بالكياسة والفطنة والذكاء وأعلى درجات الحكمة في أوقاتِ المحنة، فلنحرص على عدم إحداث أي فعلٍ من شأنه أن يُسبب قلقًا للصفِّ بأيٍّ من عناصره.

ثامنًا: العمل الجاد والمنتج:
فواجبنا أثناء الفترات العصيبة البعد عن الجدال، وإيثار الجانب العملي على الجانب القولي وأن نُري الله منا خيرًا في هذه الشدائد ونستثمرها في تنمية أنفسنا وذواتنا وجميع الدوائر المحيطة بنا.. ولنوجه جهودنا نحو أداء أدوارنا الموكلة إلينا وأن نبذل قصارى جهدنا ونفرغ وسعنا فيها غير متأثرين بأي أحداث حولنا، فضلاً على أن نتأثر بأقوال مرسلة تستفرغ طاقتنا ووقتنا وتُؤثر على أخوتنا ووحدتنا وترابطنا، وليكن شعارنا "لن يسبقني إلى الله أحد".

تاسعًا: دراسة سير السابقين:
لنرى أنَّ المحن والشدائد والابتلاءات من سنن الدعوات وكيف واجهوها وثبتوا في وجهها غير مبدلين ولا مُفرطين، وسيبقى الأجر للثابتين الصابرين المجاهدين في الله حقِّ جهاده، وسيبقى الندم للمقصرين والمفرطين ولكن في وقتٍ لن ينفع فيه الندم: ﴿كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود:120).

الرسائل بين الواقع والمأمول

بقلم: وليد شلبي

لا شك في أهمية رسائل الإمام البنا، التي تمثل فكر الإخوان المسلمين، ومن هنا كان لا بد علينا أن نقف وقفةً صادقةً مع أنفسنا، هل أنزلنا الرسائل منزلتها المستحقة؟ وهل اهتممنا بها كما ينبغي؟ فرسائل الإمام الشهيد ليست لمجرد الإعلام بمدى أهميتها، والترحُّم على كاتبها، أو لمجرد اعتبارها جزءًا من منهج ثقافي تربوي لمستوى دعوي معين، ولكنها هي المحدد الأكبر للثوابت الفكرية للإخوان المسلمين، ولا بد من وضعها في مكانها الصحيح في قلب وعقل وفكر كلِّ مَن ينتمي للإخوان، وكذلك كل من أراد التعرف على الإخوان عن قرب عليه قراءة الرسائل.

فمِنَ المؤسف ألا يهتم بعض الإخوان بمتابعة دراسة الرسائل، وقراءتها والتحجج بكثرة المهام والتكليفات، بل واعتبار أن مجرد قراءة الرسائل يحتاج لتوجيه وتكليف من المربين. إن تقصير بعض الإخوان- للأسف - في مدارسة الرسائل أمر غير مقبول على الإطلاق، ولابد من مواجهة النفس فيه بتقصيرها حتى تصبح من عاداتنا بعد ذلك قراءتها، والاستمتاع بها.

فالرسائل هي الحصن الواقي من الانحراف، والشطط الفكري، وهي الضمان الأكيد بإذن الله لاستمرار الإخوان على مدى العصور بأداء دورهم المنوط بهم، والمحافظة على ثوابتهم دون حيدة عن الطريق، مهما كانت الظروف، أوالعقبات. ولعل من أهم عوامل ثبات فكر الإخوان على مر الأزمان- رغم ما تعرضوا له - هي رسائل الإمام الشهيد. فالرسائل هي المرجع الرشيد الذي ينبغي أن نعود إليه إذا ما اختلفنا في أي رؤية، أو قضية.

هذه ليست دعوة لتقديس الرسائل، أوإنزالها منزلة مقدسة ، لكنها دعوة للاهتمام بها، والتركيز عليها، فنحن في هذا الوقت، وفي ظل الهجمات العاتية على الدعوة، والدعاة في حاجة شديدة لمدارسة الرسائل، ومعايشتها ومجالسة من سمعوها من الإمام الشهيد، أو تتلمذوا على أيديهم، والتتلمذ على أيديهم. وذلك لضمان سلامة الفكر النقي من الشطط، والانحراف.

نحن نريد أن ندرس الرسائل دراسة متأنية، وتفصيلية، ومعرفة الظروف التاريخية التي قيلت فيها، وملابساتها واستخلاص المبادئ، والأسس الفكرية التي أرساها الإمام الشهيد في رسائله، وتلخيصها في شكل نقاط لسهولة عرضها، وتداولها، ومن ثم استرجاعها. وكذلك استخدام وسائل العرض الحديثة كالعروض التقديمية (البوربوينت)، والسؤال المتكرر لأساتذتنا المختصين في دراسة، وتدريس الرسائل، والأخذ منهم، والاستفهام عما قد يستشكل علينا.

ففي ذكرى استشهاد الإمام البنا هذه دعوة نوجهها لقراءة، ومدارسة رسائله مرات، ومرات، ومحاولة فهمها، وشرحها، والسؤال عما يلتبس علينا لترسيخ المعاني، وتوضيحها لنا، وللأجيال القادمة.

قراءة في رسالة المؤتمر الخامس (4)


بقلم: وليد شلبي

يستعرض الإمام الشهيد في المحاور المتبقية من الرسالة العديد من القضايا المهمة والمحورية في فكر ومنهج الإخوان المسلمين؛ حيث تحدث عن غاية ووسيلة الإخوان، وموقفهم من القوة والثورة والحكم والدستور والقانون وعلاقة الإسلام بالقومية والعروبة، ورأيهم في الخلافة وموقفهم من الهيئات والأحزاب وموقفهم من الدول الأوروبية، ويختم بنصيحة جامعة للإخوان لتضيء لهم الطريق.

غاية الإخوان ووسيلتهم
يتحدث الإمام الشهيد، يرحمه الله، في هذا المحور الهام عن غاية ووسيلة الإخوان وأجملها في أن غاية الإخوان هي تكوين جيل جديد وسيلتهم تربية جيل القدوة يصلح للقيام بالمهام الجسيمة الملقاة على عاتقه "إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138) وأن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة على هذه التعاليم حتى يكونوا قدوةً لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول على حكمها".

وفي هذا تركيز على مبدأ التربية كوسيلة معتمدة للتغيير عند الإخوان، ولعل اللافت هنا هو تركيز الإمام على مبدأ القدوة في حياة الدعاة، فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة قدوة في أقوالهم وأفعالهم ليعطوا الصورة الصحيحة والمثالية للإسلام كواقع ملموس على أرض الواقع.

القوة والثورة
ثم يوضح الإمام موقف الإخوان من والقوة والثورة، وهو يوضح في البداية الفرق بين القوة كشعار للإسلام وبين تطبيقها عمليًّا، ويبين أن القوة من حيث المبدأ هي شعار الإسلام "أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته؛ فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية60 )، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

ويبين أنواع القوة ويركِّز على القوة النفسية كأكبر دافع وداعم للداعية "بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء، وهو مظهر الخشوع والمسكنة، واسمع ما كان يدعو به النبي في خاصة نفسه ويعلِّمه أصحابه ويناجي به ربه: "اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال"؛ فالإخوان المسلمون لا بد أن يكونوا أقوياء، ولا بد أن يعملوا في قوة".

ثم يضع ضوابط حاكمة على الأحداث ومدى إمكانية استخدام القوة فيها من عدمه، "ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا في أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها".

ويوضح بعد ذلك فهم الإخوان لدرجات القوة وتصنيفها، وأن الإسلام لم يوصِ باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال؛ "فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك".

هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة قبل أن يقدموا عليه، والثورة أعنف مظاهر القوة، فنظر الإخوان المسلمون إليها أدق وأعمق، وبخاصة في وطن كمصر جرَّب حظَّه من الثورات، فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون.

ويضع الإمام الشهيد بعد ذلك الأسس التي سيبني عليها الإخوان قرارهم باستخدام القوة في قوله "إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسيُنذرون أولاً وينتظرون بعد ذلك، ثم يقدمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح".

ويوضح الإمام أن الإخوان لا يفكرون في الثورة كوسيلة للتغيير على الإطلاق حين قال: "وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها"؛ ذلك لأن من يعتمد على التربية كوسيلة للتغيير ويتحمل عقباتها وطول طريقها لا يمكن أن يعتمد على الثورة وتغيراتها المفاجأة على المجتمع كله.

الإخوان المسلمون والحكم
بيَّن الإمام أن الإخوان المسلمين يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدي الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة، وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون:
1- يجعل الحكومة ركنًا من أركانه.
2- ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد.

ووضح خطورة إبعاد المصلحين والدعاة عن مصادر التشريع وتركها لمن لا يفقهون الدين ولا مراميه "والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهًا مرشدًا يقرر الأحكام ويرتِّل التعاليم ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره؛ فإن النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخةً في وادٍ ونفخةً في رماد كما يقولون.. قد يكون مفهومًا أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاءً لأوامر الله وتنفيذًا لأحكامه وإيصالاً لآياته ولأحاديث نبيه".

ويركز الإمام الشهيد في هذا المحور المهم على أن الإخوان المسلمين لا يطلبون الحكم لأنفسهم، وإنما هم أنصار وأعوان كل من يطبق منهج الإسلام:
* فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه.
* وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله.

وذكر بعد ذلك فترة انتقالية في حال عدم توفر تطبيق شرع الله، وركَّز فيها على عنصرين مهمين يتضح منهما منهج التدرج، وعدم التعجل وتربية الأمة على المبادئ الإسلامية العامة، وتحدث عن فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

"وكلمة لا بد أن نقولها في هذا الموقف: هي أن الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها، ولا الحكومة القائمة ولا الحكومة السابقة ولا غيرهما من الحكومات الحزبية، من ينهض بهذا العبء أو من يبدي الاستعداد الصحيح لمناصرة الفكرة الإسلامية، فلتعلم الأمة ذلك، ولتطالب حكامها بحقوقها الإسلامية، وليعمل الإخوان المسلمون".

ولعل في ختام هذا المقطع ما يؤكد ويرسِّخ مفهوم إيثار العمل على القول؛ فعندما طالب الإمام الأمة بالعلم طالب الإخوان بالعمل، وفي هذا تربية عملية للإخوان على العمل وتغليبه على القول.

الإخوان المسلمون والدستور
ويوضح الإمام في هذا المجال الفرق بين الدستور والقانون، وذهب إلى أن النظام الدستوري هو أقرب النظم القائمة للنظام الإسلامي، "وأحب قبل هذا أن نفرق دائمًا بين (الدستور) وهو نظام الحكم العام الذي ينظِّم حدود السلطات وواجبات الحاكمين ومدى صلتهم بالمحكومين، وبين (القانون) وهو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض ويحمي حقوقهم الأدبية والمادية ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال.

الواقع أيها الإخوان: أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في:
1- المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها.
2- وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة.
3- وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال.
4- وبيان حدود كل سلطة من السلطات.

هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم، ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر".

الإخوان والقومية والعروبة والإسلام
وتحدث الإمام عن معاني سائدة في ذلك الوقت حول: الوحدة القومية، والوحدة العربية، والوحدة الإسلامية. وأوضح "أننا لن نحيد عن القاعدة التي وضعناها أساسًا لفكرتنا.. وهي السير على هدي الإسلام وضوء تعاليمه السامية؛ فالإخوان المسلمون يحبون وطنهم، ويحرصون على وحدته القومية بهذا الاعتبار لا يجدون غضاضة على أي إنسان يخلص لبلده، وأن يفنَى في سبيل قومه، وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عزة وفخار، هذا من وجهة القومية الخاصة".

العروبة
وحين تحدث عن العربية بيَّن "أن الإسلام الحنيف نشأ عربيًّا، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه بلسان عربي مبين، وتوحَّدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين".

وقد جاء في الأثر: إذا ذلَّ العرب ذلَّ الإسلام، وقد تحقق هذا المعنى حين زال سلطان العرب السياسي وانتقل من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم؛ فالعرب هم عصبة الإسلام وحرَّاسه".

وأوضح أن الإخوان مع الوحدة العربية التي ستؤدي إلى إعادة أمجاد الإسلام وعزه ومجده وسلطانه "ومن هنا كانت وحدة العرب أمرًا لا بد منه لإعادة الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا موقف مجموعة البحث من الوحدة العربية".

وانتقل الإمام يرحمه الله بعد ذلك للحديث حول الوحدة الإسلامية وأصلها شرعيًّا وواقعيًّا، مبينًا أهميتها للمسلمين وللأمة كلها، وأنه لا تعارض بين الوحدتين العربية والإسلامية "بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية، والحق أن الإسلام كما هو عقيدة وأنه قضى على الفوارق النسبية بين الناس؛ فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم أخو المسلم" "والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على سواهم".

فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفروق الجنسية والدموية، ويعتبر المسلمين جميعًا أمةً واحدةً، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده.

ثم بيَّن وجهة نظر الإخوان في كل من الوحدتين بعد ذلك بما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل: "وضح إذًا أن الإخوان المسلمين..
* يحترمون قوميتهم الخاصة؛ باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود.
* ولا يرون بأسًا بأن يعمل كل إنسان لوطنه، وأن يقدم الوطن على سواه.
* ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض.
* ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام.

ولى أن أقول بعد هذا: إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله، فهم ينادون بالوحدة العالمية؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).

وأنا في غنى بعد هذا البيان أن أقول أنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، وبأن كل منهما يشد أزر الأخرى يحقق الغاية منها؛ فإذا أراد أقوام أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة سلاحًا يميت الشعور بما عداها، فالإخوان المسلمون ليسوا معهم ولعل هذا هو الفارق بيننا وبين كثير من الناس".

الإخوان المسلمون والخلافة
ثم عرج الإمام بعد ذلك على موقف الإخوان من الخلافة ووجهة نظرهم في هذه القضية المهمة وقال: "ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة:
* رمز الوحدة الإسلامية.
* ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام.
* وإنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكر في أمرها والاهتمام بشأنها.

والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا إلى تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها، والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات:
1- لا بد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها.
2- يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات.
3- وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد.
4- ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية.
5- حتى إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض".

فإنه لما كانت هذه المهمة (إعادة الخلافة) من الضخامة والثمن الباهظ ما لا تستطيعه أيّ جماعة مهما كانت؛ كانت نظرة الإمام البنا إلى الأمة باعتبارها القوة الضاربة، ولذلك كان كل ما يؤدي إلى تفريق الأمة وتشتيت جهودها ينبغي تقييده، وينبغي إلغاؤه.

من أجل هذا دفع الإمام البنا بأهم خاصية من خصائص دعوة الإخوان، وهي البعد عن مواطن الخلاف؛ لأن مواطن الخلاف هي التي ستفرق الأمة؛ وذلك حتى تستطيع الأمة أن تقوم بالواجب الذي يناط بها، وهو أداء هذا التكليف باهظ الثمن، وهو إخراج المسلمين من أسر أهل الكفر والعدوان.

الإخوان المسلمون والهيئات الإسلامية
وذكر الإمام بعد ذلك أسس التعامل مع الهيئات الإسلامية المختلفة ووجهة نظر الإخوان فيها، وحدد ثلاثة أسس للتعامل معها: "والإخوان المسلمون يرون في الهيئات الإسلامية على اختلاف ميادينها تعمل لنصرة الإسلام، ويتمنون لها جميعًا النجاح ولم يفتهم أن يجعلوا من منهاجهم:
- التقرب منها.
- والعمل على جمعها.
- وتوحيدها حول الفكرة العامة.

الإخوان المسلمون والأحزاب
وذكر الإمام بعد ذلك موقف الجماعة من الأحزاب التي كانت قائمة آنذاك، ووصف الحالة السياسية بوضوح ووعي تام ورفع واقعها بكل دقة وحدد أسس التعامل الأمثل في:
1- تحديد الأهداف والبرامج بوضوح.
2- التعاون على المبادئ العامة.
3- رفض الحزبية المفرقة للجهود.

"والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعًا قد وجدت في ظروف خاصة، ولدواعٍ أكثرها شخصي لا مصلحي؛ فهم، قد اتفقوا في هذا الفراغ، كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه، وتجريح كل من يحول من الخصوم الحزبيين دون الحصول عليه.

كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقًا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة وهو يوجبه الإسلام وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وهو ما تستلزمه الحزبية ويأباه الإسلام ويحرمه أشد التحريم والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة والتعاون".

موقف الإخوان من الدول الأوروبية
ويتحدث الإمام بعد ذلك عن محور الرسالة الحيوي، والذي تُشد إليه الرسالة كلها حول موقف الإخوان من الدول الأوروبية وموقفهم منها، وليس بخافٍ علينا أن معظم الدول العربية والإسلامية كانت أسيرةً الدول الأوروبية وواقعةً تحت احتلالها: "بعد هذا البيان عن موقف الإخوان المسلمين، الذي يمليه عليهم الإسلام، في أهم القضايا الداخلية، يحسُن أن أتحدث إلى حضراتكم عن موقفهم من الدول الأوروبية:

الإسلام كما قدمت يَعتبر المسلمين أمةً واحدةً؛ تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضًا في الآمال والآلام، وأي عدوان يقع على واحدة منها أو على فرد من المسلمين فهو واقع عليهم جميعًا.

أضحكني وأبكاني حكم فقهي رأيته عَرَضًا في كتاب (الشرح الصغير على أقرب المسالك) قال مؤلفه: "مسألة امرأة مسلمة سُبِيَت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها وافتداؤها ولو أتى ذلك على جميع أموال المسلمين"، ورأيت مثله قبل ذلك في كتاب (البحر في مذهب الأحناف)، رأيت هذا فضحكت وبكيت وقلت لنفسي: أين عيون هؤلاء الكاتبين لتنظر المسلمين جميعًا في أسر غيرهم من أهل الكفر والعدوان؟!".

بهذا يحدد الأستاذ الإمام البنا هذه الروح التي تشد إليها الرسالة جميعًا ضخامة المشكلة؛ التي يجب أن نضطلع بالقيام بها، وهي وقوع المسلمين جميعًا في أسر أهل الكفر والعدوان، وهو أمر يناقض طبيعة الدين نفسه؛ لأنه كما يذكر الأستاذ الإمام البنا: والإسلام يأبى على أبنائه إلا أن يعيشوا سادةً في أوطانهم، أئمةً في ديارهم، فما يعيشه المسلمون الآن وضعٌ مخزٍ بالغ السوء والبؤس.

كتب الإمام البنا ذلك، وهذا واقع الأمة ليظهر ضخامة التبعة، والثمن الباهظ الذي سيدفع من أجلها حتى تستعيد رسالتها ومكانتها في الحياة مرةً أخرى ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: من الآية 143)، وهذا يعني دعوته للأمة أن تأخذ دورها في أشدِّ الظروف حرَجًا؛ لأن أي جماعة مهما كانت مواهبها، ومهما كانت نتائجها، ومهما كانت قواها، ومهما كان عدد أفرادها؛ لا تستطيع أن تقوم وحدها بهذه المهمة الضخمة.

والعالم الآن من حولنا هو عالم للتكتلات والكيانات الكبرى، وهذا من الأمور التي أثبتت صدق حدس الإمام البنا رضي الله عنه، عندما كان يدعو في هذا الوقت الباكر، تلك الدعوة الباكرة الفريدة في دعوته للأمة أن تأخذ دورها، وأن تضطلع بهذه المهمة؛ لأنها مهمة من الضخامة بحيث تتكلَّف من الثمن الباهظ ما لا تستطيع أي جماعة مهما كانت قواها ومواهب أفرادها أن تقوم به وحدها.

ولهذا أدرك الإمام البنا أننا وحدنا لن نكون القوة الضاربة مهما كان جهدنا أو قدرات أفرادنا ومواهبهم، ولذلك كان يقول: "ألا فلتعلم الأمة ذلك وليعمل الإخوان المسلمون" كأنه يتوجه بخطابه إلى الأمة باعتبارها القوة الضاربة.

وختم الإمام هذا المحور بقوله: "أريد أن أستخلص من هذا..
1- أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ، وأن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله، هذه واحدة.

2- والثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمةً في ديارهم، سادةً في أوطانهم، ليس ذلك فحسب، بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم والاهتداء بأنوار الإسلام التي اهتدوا بها من قبل.

ومن هنا يعتقد الإخوان المسلمون أن كل أمة اعتدت وتعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة، لا بد أن تكف عن عدوانها، ولا بد من أن يعدَّ المسلمون أنفسهم، ويعملوا متساندين على التخلص من نيرها".

وضرب الإمام بعد ذلك بعض الأمثلة ببعض الدول الأوروبية التي تحتل بعض الدول الإسلامية وضرب مثلاً بإنجلترا واحتلالها لمصر ومساعدتها لاحتلال فلسطين ودورها المشبوه في هذا المجال، وذكر أن لسان القوة في هذا المجال هو أفصح وأجدى لسان: "إن إنجلترا لا تزال تضايق مصر رغم محالفتها إياها، ولا فائدة في أن نقول إن المعاهدة نافعة أو ضارة، أو ينبغي تعديلها، أو يجب إنفاذها؛ فهذا كلام لا طائل تحته، والمعاهدة غل في عنق مصر وقيد في يدها؛ ما في ذلك شك، وهل تستطيع أن تتخلَّص من هذا القيد إلا بالعمل وحسن الاستعداد؟ فلسان القوة هو أبلغ لسان؛ فلتعمل على ذلك ولتكتسب الوقت إن أرادت الحرية والاستقلال.

وإن إنجلترا لا تزال تسيء إلى فلسطين وتحاول أن تنقص من حقوق أهلها، وفلسطين وطن لكل مسلم؛ باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهدَ الأنبياء، وباعتبارها مقرَّ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؛ ففلسطين دين على إنجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقهم، وإنجلترا تعلم ذلك العلم، ذلك ما حداها إلى دعوة ممثلي البلاد الإسلامية إلى مؤتمر لندن، وإنا ننتهز هذه الفرصة فنذكرها بأن حقوق العرب لا يمكن أن تنقص، وبأن هذه الأعمال القاسية التي يدأب ممثلوها على ارتكابها في فلسطين ليست مما يساعد على حسن ظن المسلمين بها، وخير لها أن تكف هذه الحملات العدوانية عن الأبرياء الأحرار".

وذكر الإمام هنا إحدى الوسائل الشعبية والاجتماعية التي بذلها الإخوان لنصرة القضية الفلسطينية منذ عشرات السنين، وهي وسيلة القرش، "وبهذه المناسبة أذكر الإخوان بأنه قد تألفت لجنة عامة بدار الشبان المسلمين من الجمعيات الإسلامية جميعًا، للتعاون على إصدار قرش موحَّد يوزَّع من أول السنة الهجرية إغاثةً لفلسطين المجاهدة، وسيحلّ هذا الطابع محل كل الطوابع المختلفة لكل الهيئات؛ فالوصية للإخوان أن يبذلوا جهدهم في تشجيع هذه اللجنة بتوزيع طوابعها حين صدورها، وبتصفية ما قد يكون موجودًا لديهم من حساب الطوابع القديمة وإعادتها إلى المكتب لإعدامها".

ولنا حساب بعد ذلك مع إنجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق، والتي يفرض الإسلام على أهلها وعلينا معهم أن نعمل لإنقاذها وخلاصها.

الخاتمة
واختتم الإمام الشهيد الرسالة بمجموعة من النصائح التربوية الهامة التي تصحح المسار وتوضح الرؤية وتبين للإخوان الطريق بوضوح تام، مبينًا بعض مشكلات المجتمع وطرق العلاج والوقاية منها وبها نختم إطلالتنا على هذه الرسالة الجامعة للإمام الشهيد.

أيها الإخوان المسلمون:
تقدمت إليكم في هذا البيان بخلاصةٍ وافيةٍ موجزةٍ عن فكرتكم في مظهرها الخاص، واليوم كنت أحب أن أستعرض معكم بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة في المجتمع المصري، وإن شئتم فقولوا الإسلامي فإن الداء يكون واحدًا في الجميع:
* ضعف الأخلاق وفقدان المثل العليا.
* وإيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
* والجبن عن مواجهة الحقائق، والهروب من تبعات العلاج.
* والفرقة قاتلها الله.

هذا هو الداء..
والدواء كلمة واحدة أيضًا هي ضد هذه الأخلاق؛ هي علاج النفوس أيها الإخوان وتقويم أخلاق الشعب ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

أيها الإخوان المسلمون..
لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم على دعائم قوية..
* من الإيمان بالله.
* والزهادة في متعة الحياة الفانية وإيثار دار الخلود.
* والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق.
* وحب الموت في سبيل الله.
* والسير في ذلك كله على هدي القرآن الكريم.

فعلي هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم وأصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلي الخير، ﴿وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).

أيها الإخوان المسلمون..
لا تيأسوا، فليس اليأس من أخلاق المسلمين، وحقائق اليوم أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد.

ولا زال في الوقت متسع، ولا زالت عناصر السلامة قويةً عظيمةً في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد.

والضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5)﴾ (القصص).

أيها الإخوان المسلمون..
- إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام.
- وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة.
- وإن العالم ينظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام.
- وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب.

وتلك الأيام نداولها بين الناس، وترجون من الله ما لا يرجون؛ فاستعدوا واعملوا اليوم؛ فقد تعجزون عن العمل غدًا.

أيها الإخوان المسلمون..
لقد خاطبتُ المتحمِّسين منكم أن يتريثوا وينتظروا دورة الزمان، وإني لأخاطب المتقاعسين أن ينهضوا ويعملوا فليس مع الجهاد راحة:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت) وإلي الأمام دائمًا.. والله أكبر ولله الحمد.

قراءة في رسالة المؤتمر الخامس (3)


بقلم: وليد شلبي


يتحدث الإمام الشهيد في هذا المحور الهام من الرسالة عن بعض خصائص دعوة الإخوان المسلمين واستعرضها سريعًا ولعل ما يلفت الانتباه هو تفصيل الإمام- يرحمه الله- في خاصية التدرج أكثر من الخصائص الست الأخرى، ولعل في هذا دعوة واضحة وصريحة لمنهج الجماعة وتدرجه وعدم تعجله.

ووضح الإمام في البداية البيئة التي نشأت فيها الدعوة في الإسماعيلية والجو العام المحيط بها من خلاف فقهي وانقسام وتفرق حول بعض النقاط الفرعية.

وعلى المستوى الوطني صراع قوي من أجل تحرير الوطن بين المجاهدين والمقاومين في القنال وبين الاحتلال الإنجليزي.

وهنا نتوقف عند الجملة التي بدأ بها الإمام هذا المحور حين قال "لعل من صنع الله لدعوة الإخوان المسلمين أن تنبت بالإسماعيلية..."، فهو هنا يتحدث عن إرادة الله؛ فالله سبحانه وتعالى حاضر في ذهنه متمثلاً في ضميره، وفي كل خطوة من خطواته، ويرجع الفضل له في كل وقت وحين، فالله هو صاحب الفضل والمنة واليد العليا على الدعوة وتطورها ونمائها. وهكذا ينبغي أن يكون الداعية متصلاً بالله مرتكنًا إلى حماه في كل وقت وحين.

وهذا هو التصور الإيماني الصحيح.. فالله هو الذي يصنع ويدبر، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، ويؤكد هذا التصور في بقية رسائله بل وخطواته كلها، فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي ينصر ويوفق لا مجهودات الداعية مهما عظمت. ثم تحدث الإمام عن سبع خصائص تميز دعوة الإخوان وهي:
(1) البعد عن مواطن الخلاف.
(2) البعد عن هيمنة الأعيان والكبراء.
(3) البعد عن الأحزاب والهيئات.
(4) العناية بالتكوين والتدرج في الخطوات.
(5) إيثار الناحية العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات.
(6) وشدة الإقبال من الشباب.
(7) وسرعة الانتشار في القرى والمدن.

1- البعد عن مواطن الخلاف
تحدث الإمام هنا عن نقطتين هامتين: الأولى ضرورة الخلاف وكونه سنةً كونيةً لا يمكن إغفالها وضرورة التعامل والتعايش معها وعدم التصادم معها، وذكر أمثلة من الصحابة والتابعين. والنقطة الثانية هي حديثه عن مكمن الخطورة في الخلاف وهو التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم. إن الحجر على العقول والآراء هو مكمن الخطورة على أي عمل ويحمل في طياته عوامل انهياره؛ لذا قرنه الإمام بالتعصب للرأي. ولعل في هذه الخاصية تمييز لأصحاب الفكرة والرسالة الذين يهدفون إلى وحدة الأمة وعودة مجدها التليد وهذا ما جمع الناس على فكرة الإخوان وأقنعتهم بها "وهذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة".

لذا وجب علينا أن تتسع قلوبنا وعقولنا للرأي المخالف ونحتويه ونتناقش معه ونوظفه بدلاً من كبته ومقاومته. وهذا واجب جماعة قال عنها الإمام "وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنشر فكرة في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها".

2- البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان
حدد الإمام في هذه الميزة بُعد الدعوة منذ نشأتها الأولى عن أي سلطان خارجي وأن أعمالها وقراراتها نابعة من فهمها لصحيح الإسلام ولأهدافها المستمدة والمتسقة مع المبادئ والقيم الإسلامية. وقد ذكر الإمام في ذلك أنه أراد أن يحمي الدعوة من التميع وعدم استغلالها من قبل بعض المنتفعين لتحقيق أهدافهم الخاصة ويبعدوها عن وجهتها الأساسية "ولأننا معشر القائمين بدعوة الإخوان تعمدنا هذا، لأول عهد الدعوة بالظهور: حتى لا يطمس لونها الصافي لون آخر من ألوان الدعوات التي يروج لها هؤلاء الكبراء.. وحتى لا يحاول أحد منهم أن يستغلها أو يوجهها في غير الغاية التي تقصد إليها...".

3- البعد عن الهيئات والأحزاب
ونظرًا لما يميز دعوة الإخوان من إتباعها لمنهج التجميع لا التفريق، ولما كان سائدًا في هذه الفترة الزمنية من حرب شعواء بين الأحزاب والقوى السياسية لأغراض ومنافع شخصية بحتة وتناسى الجميع المصلحة العليا للوطن وقضاياه ذكر الإمام في هذه الخاصية البعد عن الهيئات والأحزاب حتى لا تحيد الدعوة عن خطوطها المرسومة لها وفقًا لنهج الإسلام القويم. "وأما البعد عن الاتصال بالأحزاب والهيئات فلما كان ولا يزال بين هذه الهيئات من التنافر والتناحر الذي لا يتفق مع أخوة الإسلام، ودعوة الإسلام عامة تجمع ولا تفرق ولا ينهض بها ولا يعمل لها إلا من تجرد من كل ألوانه وصار لله خالصًا..".

4- التدرج في الخطوات
استفاض الإمام رحمه الله في شرح هذه الخاصية وتوضيحها، نظرًا لأهميتها ولعدم تعجل الثمار قبل نضجها ولترسيخ هذا المفهوم في النفوس وتجذيره لأنه من أهم خصائص هذه الدعوة. ولقد أثبتت التجارب والأحداث أن التعجل وعدم التدرج قد جلب على العمل الإسلامي الكثيرَ من المحن والصعاب وضره أكثر مما أفاده.

لذا كان اهتمام الإخوان على التربية والدرج فيها كأحد أهم وسائلهم للتغيير المتدرج وغير المتعجل.

يقول رحمه الله في هذا الصدد: "يجب أن تكون دعامة النهضة (التربية) فتربى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تمامًا وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق والأمة التي تريد النهوض عليها أن تحيل الوطن إلى مدرسة كبيرة أساتذتها الزعماء والمصلحون، وطلبتها كل المواطنين، وعلومها الحقوق والواجبات أو قل الوسائل والغايات" هذا الأسلوب الأمثل الذي تتربى به الأمة وهذا المنهج هو الذي سلكه الأستاذ الإمام البنا، تربية الأمة بالقدوة والأسوة ومن أجل ذلك أيضًا يجب أن ينظم أمران مهمان هما المنهج والزعامة. فالزعيم زعيم تربى، لا من زعمته الحوادث وأتت بهم الضرورات، والتربية التي تولد الزعامة الحقيقية هي التي تنتج فقهًا لا تفرز شعورًا. بمعنى أن التربية التي تفرز شعورًا فقط، عند أول مواجهة للعقبات والمحن أو الشدة واللأواء يبدو التبرم والضجر عن تحمل المسئولية، لأنه الشعور فقط، عاطفة ونزوة عابرة، حماسة فائرة فبمجرد الصدمة في الشدة يبدو الضجر من تحمل المسئولية ومن تحمل الواجب.

ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار، ومتانة التكوين.

وتحدث الإمام عقب ذلك عن الصبر والمثابرة في سبيل نشر الفكرة والاهتمام بها "ولا زلنا ندعو، وسنظل كذلك، حتى لا يكون هناك فرد واحد لم تصله دعوة الإخوان المسلمين على حقيقتها الناصعة، وعلى وجهها الصحيح، ويأبى الله إلا أن يتم نوره".

وتحدث الإمام بعد ذلك عن تعدد الوسائل وتنوعها وعدم قصرها على وسيلة واحدة وذكر الهدف من كل وسيلة:
1- الكتائب: ويراد بها تقوية الصف بالتعارف، وتمازج النفوس والأرواح ومقاومة العادات والمألوفات، والمران على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، واستمداد النصر منه، وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين.
2- الفرق للكشافة والجوالة والألعاب الرياضية: ويراد بها تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان، وتعويدهم الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة، وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وهذا هو معهد التربية الجسمية للإخوان المسلمين.
3- درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين: ويراد بها تقوية الصف بتنمية أفكار الإخوان وعقولهم بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ المسلم معرفته لدينه ودنياه، وهذا هو معهد التربية العلمية والفكرية للإخوان المسلمين.. بعد أن نطمئن على موقفنا من هذه الخطوة نخطو إن شاء الله الخطوة الثالثة، وهي الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين"، وبهذه الخطوات نجد التركيز على التربية بكل أنواعها الروحية والعلمية والفكرية والجسمية.

وتحت عنوان "مصارحة" يقول الإمام كلمته المعبرة التي تُجمل الموضوع والتي ما زالت تُحفظ عنه في الصبر وعدم التعجل: "أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمةً عاليةً داويةً من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقًا طويلةً ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات.

ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة. ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد".

وعندما قال الإمام البنا: (إنكم لم تكلفوا نتائج الأعمال، ولكن كلفكم الله صدق التوجه وحسن الاستعداد، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين، وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين)، أراد أن يلفت الانتباه إلى أهمية مشروع قيام الدولة. لأن البعض يتصور استسهال عملية الخطأ، أمر عادي وأننا غير مكلفين بنتائج الأعمال، وأن يكون عندنا النية فحسب.

والفهم الحقيقي لهذه الكلمات التي ذكرها الإمام أننا يجب ألا نخطو خطوة بدون هدف. فالارتجالية والعشوائية تؤدي إلى الضياع والهلكة. ومن كلماته رحمه الله: "لن نبذل بغير حاجة، ولن نضحي بغير ربح، ولن نخطو بغير هدف، ولن نجرح دون إصلاح، رائدنا المصلحة وكفى".

متي تكون خطوتنا التنفيذية؟
"نحن هنا في مؤتمر أعتبره مؤتمرًا عائليًّا يضم أسرة الإخوان المسلمين، وأريد أن أكون معكم صريحًا للغاية فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة: إن ميدان القول غير ميدان الخيال وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ".

لقد أوضح الإمام هنا حقيقة الميادين الدعوية والفرق بين من يصلح لكل ميدان وضرورة إعداد أنفسنا لميدان الجهاد الحق وضرورة الانتباه حتى لا تضيع الجهود هباء. وضرورة إيثار الجانب العملي على القولي وتوطين النفس على تحمل المشاق الدعوية على الطريق. "وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني".

هذا ما ذكره الإمام بعد ذلك في قوله "إن رجل القول غير رجل العمل ورجل العمل غير رجل الجهاد ورجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم، الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات".

ويلفت الإمام الانتباه بعد ذلك لبعد هام لا ينبغي أن يضيع من الداعية ألا وهو الاعتماد على معية الله وعدم إغفالها أبدًا "وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، وفي قصة طالوت بيان لما أقول".

وانتقل بعد ذلك للحديث عن مواصفات الكتيبة المؤمنة التي ينشدها الإمام ليحقق بها الآمال: "وفي الوقت الذي يكون فيه منكم- معشر الإخوان المسلمين- ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيًّا وروحيًّا بالإيمان والعقيدة وفكريًّا بالعلم والثقافة وجسميًّا بالتدريب والرياضة في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار وأقتحم بكم عنان السماء. وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله، وصدق رسول الله القائل: (ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة)".

5- إيثار الناحية العملية
ذكر الإمام ثلاثة أسباب لإيثار الإخوان للناحية العملية في حركتهم وحددها في "مخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء، نفور الإخوان الطبيعي من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة، خشية الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق السير أو تعطيل عن الغاية".

وحدد الإمام- يرحمه الله- الضوابط الإعلامية الحاكمة للدعاة للإعلان عن أعمالهم، فهي ليست للمباهاة والتفاضل ولكن للتسابق للخيرات ولندل بها على الخير "أن تبينوا للناس غايتكم ووسيلتكم وحدود فكرتكم ومنهاج أعمالكم وأن تعلنوا هذه الأعمال على الناس لا للمباهاة بها ولكن للإرشاد إلى ما فيها من نفع للأمة وخير لأبنائها، واحرصوا على أن تكونوا صادقين لا تتجاوزون الحقيقة، وأن تكون دعايتكم في حدود الأدب الكامل والخلق الفاضل والحرص التام على جمع القلوب وتأليف الأرواح واستشعروا كلما ظهرت دعوتكم أن الفضل في ذلك كله لله: (بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: من الآية17 )".

6- إقبال الشباب على الدعوة
ركز الإمام- يرحمه الله- في هذا المحور على أهمية الاهتمام بالشباب كونها أخصب المنابت الدعوية وربط مدى نجاح هذه الطاقات بمدى ارتباطها بالله سبحانه وتعالي. فمتى تفاعل الشباب مع القضية واقتنع بها واخلص لها وأخلص وجهته لله سبحانه وتعالي ستتحقق أروع النتائج بإذن الله "فليس غريبًا عليه أن يعتبر دعوة الإخوان المسلمين دعوته وأن يعد غايتها غايته، وأن تمتلئ الصفوف الإخوانية والأندية الإخوانية بشبابه الناهض وعلمائه الفضلاء ومدرسيه ووعاظه، وأن يكون لهم جميعًا أكبر الأثر في نشر الدعوة وتأييدها والمناداة بها في كل مكان..".

ولعل من حسن اعتماد الإمام على فضل الله وعدم نسبه للفضل له وللدعوة وإنما ربطه بالله صاحب الفضل والمنة كان واضحًا حين تحدث عن هداية الكثير من الشباب فأرجع ذلك إلى الله وليس للجهود البشرية "وإن كثيرًا من الشباب كان ضالاً فهداه الله وكان حائرًا فأرشده الله، وكانت المعصية له عادة فوفقه الله إلى الطاعة، وكان لا يعرف له غاية من الحياة فوضحت أمامه الغاية، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (النور: من الآية35 ). وإنا لنعتبر ذلك من علامات التوفيق ونلمس كل يوم تقدمًا جديدًا في هذا الباب يدعونا إلى: الأمل القوي والمثابرة ومضاعفة الجهود (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: من الآية 126)".

7- سرعة الانتشار في القرى والمدن
وتحدث الإمام في هذا المحور عن سرعة الانتشار في القرى والمدن والعجيب أنه عندما بدا الحديث بدأه بتوصيف الواقع المرير والبئيس الذي كانت تحياه مصر، ولكنه خلص منه إلى نقطة هامة ومحورية وهي استثمار العقبات وهذا هو واجب الدعاة، ضرورة التغلب على العقبات وتوظيفها واستثمارها، وعدم الركون إليها والتسليم لها "وأما سرعة انتشار الدعوة في القرى والمدن فقد قدمت لكم أن الدعوة نشأت في الإسماعيلية، وترعرعت في جوها الصافي ودرجت على رمالها الممتدة الجميلة. يغذيها وينميها ما ترى ما ترى كل صباح ومساء من مظاهر الاحتلال الأجنبي والاستئثار الأوربي بخير هذا البلد. والمصري غريب بين كل هذه الأجواء في بلده محروم وغيره ينعم بخير وطنه ذليل، والأجنبي يعتز بما يغتصبه من موارد رزقه".

وذكر الإمام بعد ذلك بعض الأسباب التي دعت عموم الناس إلى الانضمام إلى دعوة الإخوان "إيمانًا بفكرتهم، وإيثارًا للعمل مع الجماعة، وزهادةً في الألقاب والأسماء، واحتقارًا لهذه الأنانية الفردية التي أفسدت علينا كل عمل".


فكانت النتيجة الحتمية لهذه الخصائص أن "انتشرت شعب الإخوان بسرعة فائقة في جميع نواحي القطر المصري من أسوان إلى الإسكندرية إلى رشيد إلى بورسعيد إلى السويس إلى طنطا، إلى الفيوم إلى بني سويف، إلى المنيا، إلى أسيوط، إلى جرجا، إلى قنا، وفيما بين ذلك من المراكز والقرى، ولم تقف عند هذه الحدود المصرية بل تجاوزتها إلى القسم الجنوبي من الوطن الغالي، إلى السودان المفدى، ثم إلى بقية أجزاء الوطن الإسلامي العزيز: سوريا بأقسامها شرقًا، والمغرب بأقسامه غربًا، ثم إلى غير ذلك من بقية بلادنا الإسلامية المباركة".

ويختم الإمام يرحمه الله هذا المحور بالإجابة على السؤال الذي يثار بين الحين والحين حول مصادر تمويل الجماعة "وإن كثيرًا من الناس ليتساءل: ومن أين يقوم الإخوان المسلمون بنفقات هذه الدعوة، وهي نفقات كثيرة تُعجز الأغنياء فضلاً عن الفقراء؟ ألا فليعلم هؤلاء وليعلم غيرهم أن الإخوان المسلمين لا يبخلون على دعوتهم يومًا من الأيام بقوت أولادهم وعصارة دمائهم وثمن ضرورياتهم، فضلاً عن كمالياتهم والفائض من نفقاتهم...".

وأنهم يوم أن حملوا هذا العبء عرفوا جيدًا أنها دعوة لا ترضى بأقل من الدم والمال، فخرجوا عن ذلك كله لله وفقهوا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) (التوبة: من الآية 111)، فقبلوا البيع وقدموا البضاعة عن رضا وطيب نفس، معتقدين أن الفضل كله لله، فاستغنوا بما في أيديهم عما في أيدي الناس، ومنحهم الله البركة في القليل فأنتج الكثير".

وبهذا يضع الإمام الشهيد يرحمه الله قاعدة عظيمة فطالما أننا سنعتمد على أنفسنا فيجب أن تكون تربيتنا على هذا المستوى النفسي الصالح الذي يميز مبادئنا في نفوسنا.