الخميس، 15 مايو 2008

وقفات مع الأصول العشرين (1- 2)


إعداد: وليد شلبي*
عندما صدَّر الإمام الشهيد حسن البنا- يرحمه الله- أركان البيعة بالفهم، وضع له أصولاً عشرين؛ لتشمل كافة النواحي العقائدية والعبادية والفكرية التي يمكن أن يتعرَّض لها الأخ في مسيرته الدعوية؛ لتمثِّل له سياجًا حاميًا من الزَّلل والانحراف، ويقول بعض الأساتذة ممن عاصروا الإمام الشهيد إنه اطَّلع على الكثير من الكتب والمراجع قبل وضع الأصول العشرين، فكان لكل منها معنى ومدلول يصعب استبعاده.

وهذا اعترافٌ منه بأهمية ومكانة الفهم في منظومة العمل للإسلام كما يراه ويتبنَّاه الإخوان المسلمون لتحقيق الهدف الأسمى، وهو إقامة دولة الإسلام وخلافته في الأرض (التمكين لهذا الدين في الأرض) ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (آل عمران: 19) ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران: 85) ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: من الآية 3)، ولهذا كان لزامًا أن يتم هذا التمكين على الفهم الصحيح الشامل للإسلام، الفهم السليم النقيّ الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد حرص الإمام البنا على الفهم الصحيح، وجعله الركن الأول، ووضع له أصولاً عشرين؛ ليحميَه من الخطأ أو الانحراف، ويُعتبر كلُّ أخ حارسًا أمينًا على هذا الفهم من أي تغيير أو انحراف؛ وفاءً ببيعته مع الله، فليلتزم بحدوده في حركته أو حديثه أو تأليفه أو كتابته أو غير ذلك.

ولقد اعتمدت على ما كتبه علماء الدعوة في شرح الأصول العشرين وخاصةً فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب والأستاذ جمعة أمين لبَيَان رأيِهما في شرح هذه الأصول، وعرضته بإيجاز أدعو الله ألا يكون مخلاً.. يقول الإمام الشهيد في بداية الركن: "إنما أريد بالفهم أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه, في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز".

فالفهم الصحيح يعين على سلامة العمل وحسن التطبيق، ويقي صاحبه العثرات.. يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "من عمل على غير علم كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح".

ولقد حكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أناس بالضلال وأنهم شرُّ الخلق مع كثرة أعمالهم من الصلاة والصيام والتلاوة، قال صلى الله عليه وسلم في الخوارج ورئيسهم: "إن له أصحابًا يحقر أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم، وصيامَه مع صيامِهم، ويقرءون القرآنَ لا يُجاوز تراقيَهم"، وسبب هذا الضلال هو آفة الفهم المعوجّ والعقيم.

إن العبرة في التفضيل ليست بكثرة المعارف والمحفوظات والأعمال، وإنما بجودة الفقه، وصحة الفهم، وسلامة الإدراك.. قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"، وقال أيضًا: "نضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقهُ منه، ورُبَّ حامل فقه ليس بفقيه".. يقول ابن القيم: "صحة الفهم، وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضلَّ ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريقَ المغضوب عليهم الذين فسَد قصدُهم، وطريقَ الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المُنعَم عليهم الذين حسُنَت أفهامُهم وقصودُهم، وهم أهل الصراط المستقيم في كل صلاة، وصحة الفهم نورٌ يقذفه الله في قلب العبد، يميِّز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدَى والضلال، والغيّ والرشاد" (إعلام الموقعين 1/87).

الأصل الأول
الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواءً بسواءٍ".
هذا الأصل يُعالج:
- ربانية المصدر
- شمولية المنهج
- عمومية الرسالة
- عالمية الدعوة
- أخلاقية الوسيلة والغاية وخصائص الدعوة الإسلامية بوجه عام

هذا الأصل يقرر حقيقة مهمة من حقائق الإسلام، وهي: شمولية الإسلام لكل مظاهر الحياة، ومن أدلة الشمولية قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177).

فهذه آية واحدة من آيات الله بيَّنت الشمول في الإسلام، فهي تتضمن: العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات، فنحن نقرأ في الصلاة آيات العقيدة والعبادة، والحكم والقضاء والسياسة، والتجارة والدَّيْن والجهاد والقتال:
العقيدة والعبادة ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: 4).

والحكم والقضاء والسياسة ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).

والتجارة والدَّيْن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ (البقرة: من الآية 282).

وهكذا اتصل الإخوان المسلمون بكتاب الله واستلهموه واسترشدوه، فأيقنوا أن الأساس هو المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة، وأن يصطبغ بها جميعًا، وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منه، ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمةً إسلامًا صحيحًا.

ولكي يتأصَّل هذا الفهم وضع الإمام البنا أهدافًا توصلنا للغاية المنشودة وهي:
- إصلاح النفس
- تكوين البيت المسلم
- إرشاد المجتمع
- دعوة الحكومة لتطبيق شرع الله
- الدعوة للوحدة الإسلامية

والسبيل إلى ذلك:
أولاً: دعوة تضبطها الحكمة والموعظة الحسنة.
ثانيًا: تربية إسلامية أساسها منهاج القرآن وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: من هذه اللبنات التي تُربَّى تنشأ الأسرة، فالجماعة، فالحكومة المسلمة، حتى يتحقَّقَ الغرض المنشود بإذن الله.

ثم أردف ذلك بتحديد مناهج التربية كي يُفهَم الإسلامُ فهمًا شاملاً، فوضع:
1- منهاجًا للعقيدة: بلا إفراط ولا تفريط، يُستقى من معين السلف الصالح، يبني رجالاً تغرس في نفوسهم مشاعر ثلاثة: الشعور بعظمة هذه الرسالة- الاعتزاز بالانتساب إليها- الثقة في نصر الله.
2- منهاجًا للعبادة: يقوم على صحة الاعتقاد، وصدق الاتباع، ويمتاز بالشمول والعموم، والكمال والدوام، ولا يفرق بين العقيدة والشريعة، ولا الصلاة والجهاد.. شمول حتى يقول المسلم ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162).

وعموم يحقق قوله تعالى:﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (الأعراف: 158).

وكمال يحقق قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38).

ودوام يحقق قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران: 85).

3- منهاجًا للحركة: يهتم بالداعي، بصفاته الأخلاقية والسلوكية، كما يهتم بالوسائل والقواعد التي يتبعها والمراحل التي يجب أن يمر بها.. يقول الإمام الشهيد: "كان نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كلَّ نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثَّلت فيها كلُّ عناصر غيرها من الفكر الإصلاحي، وأصبح كل مُصلح غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح، الذين عرفوها، وفهموا مراميها".

وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك: إن دعوة الإخوان المسلمين دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية ورابطة علمية ثقافية.

الأصل الثاني
"والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام، ويُفهَم القرآن طبقًا لقواعد اللغة العربية من غير تكلُّف ولا تعسُّف، ويُرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات".

هذا الأصل يُعالج:
- المصدر الأول لأدلة الأحكام لكل مسلم (القرآن الكريم).
- المصدر الثاني (السنة النبوية).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)﴾ (النساء)، ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: من الآية 7) ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)﴾ (الإسراء) ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)﴾ (النحل).

فالقرآن هو المصدر الأول لأنه كلام الله المعجز، ووحيه المنزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبَّد بتلاوته وأحكامه على نوعين:
1- أحكام يراد بها إقامة الدين، وهذه تشمل العقائد والعبادات.
2- أحكام يراد بها تنظيم الدولة والجماعة وعلاقات الأفراد، وهذه تشمل المعاملات والعقوبات والأحوال الشخصية والدستورية والدولية.

المصدر الثاني السنة، وهي ما أُثر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير..
السنة القولية: هي أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- التي قالها في مختلف المناسبات.
السنة الفعلية: هي أفعاله- صلى الله عليه وسلم- مثل: قضائه بالعقوبة في الزنا بعد الإقرار، وقطعه اليد اليمنى في السرقة.
السنة التقريرية: هي ما صدر عن بعض أصحابه- صلى الله عليه وسلم- من أقوال أو أفعال أقرَّها الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسكوته وعدم إنكاره أو بموافقته وإظهار استحسانه، فيعتبر عمل الصحابي أو قوله بعد أن أقرَّه الرسول- صلى الله عليه وسلم- كأنه صادرٌ عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسه.

ملاحظات
1- المرجع في فهم القرآن
قرَّر الإمام الشهيد أن المرجِعَ في فهم القرآن هو اللغة العربية الواضحة المعنى، القريبة الدلالة، وأنكر التكلُّف والتعسُّف في الفهم ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)﴾ (يوسف)﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾ (النمل).
2- المرجع في فهم السنة:
هم رجال الحديث الثقات، فهم أقدرُ الناس على معرفة صحيحها من سقيمها، ودلالتها ومعانيها.
3- القرآن والسنة مرجعان لسلفية الدعوة، وأن نهجها هو منهج السلف.
4- في تحديد هذا المصدر والسير عليه أمان من الضلال.
5- أغلق الباب على أهل الزيغ والضلال للتلاعب بعقول الناس، بتفسيرات متكلّفة ومتعسّفة.
6- في النهي عن التكلُّف والتعسُّف في الفهم حفظٌ لشَمل المرء والأمة، فكم من نفس ضلَّت، وجماعات تمزَّقت بسبب التكلُّف والتعسُّف، وعدم الاكتفاء بالجليّ الواضح..
التعسف: السير بغير علم ولا هداية، ولا رجوع عن الغي، ولذا سُمِّي التعسُّف ظلمًا.
والتكلف: التعرض لما لا يعني، وللأمر الشاقّ العسير، ولما لا يُطاق.

الأصل الثالث
"وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نورٌ وحلاوة يقذفهما الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية, ولا تُعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه".

هذا الأصل يُعالج:
- الإيمان الصادق
- العبادة الصحيحة والمجاهدة
- المصادر التي ليست من أدلة الأحكام الشرعية
يقرر الإمام الشهيد أن للإيمان الصادق النقي والعبادة الصحيحة الخالية من البدع والمجاهدة البعيدة عن الغلو آثارًا طيبةً على صاحبها، ومن هذه الآثار:
- أن الله تبارك وتعالى يمنُّ على صاحبها بنور يكشف به ما لا يكشفه لغيره، يميِّز بين هذه المتشابهات والمتداخلات يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾ (الأنفال) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾ (الحديد).
- أن الله- تبارك وتعالى- يذيق صاحبَها من حلاوة الإيمان ما شاء الله له، فيشعر بسعادة ولذة عظيمة.. يقول- صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".

ومن الوقائع الثابتة المشهورة:
- ما ثبت عن عثمان- رضي الله عنه- أن رجلاً دخل عليه فقال له عثمان: "يدخل عليَّ أحدكم والزنا في عينيه"، فقال: أوَحيٌ بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟! فقال: "لا ولكن فراسة صادقة".
- وقصة عمر وهو يخطب على المنبر؛ حيث قطع الخطبة، وقال: يا سارية..، الجبل الجبل!!
وهذا من حيث المبدأ، أما الوقائع فيتوقَّف تصديقُها على ثبوتها بالأسانيد الصحيحة.

حكم الإلهام والرؤى والكشف
- يبيِّن الإمامُ الشهيد أن الإلهامَ والرؤى والخواطرَ أمورٌ لها وجودٌ ثابتٌ، فلم ينكرها كليةً، وهي مع وجودها ليست من أدلة الأحكام المستقلة؛ لأن الظنَّ يتطرق إليها كثيرًا والأوهام تختلط بها كثيرًا، وما كان كذلك فلا يُعتمد عليه، فإن قيل: ما فائدة وجودها؟! قيل: الاستئناس بها عند عدم معارضتها للكتاب والسنة، وزيادة في التثبيت.

نلحظ في هذا الأصل:
- المحافظة على مصادر الأحكام الشرعية صفيَّةً نقيَّةً.
- وسطية واعتدال الإمام الشهيد؛ حيث إنه لم يقصِّر ولم يُغالِ، فلم ينكر أصلَ وجود الإلهام والخواطر، ولم يبالغ في اعتبارها دليلاً مستقلاً من أدلة الأحكام.
- أغلق البابَ على الدجَّالين، وأنقَذَ المخدوعين.
- عفَّة التعبير، فقد عرض الحقائق دون ممالأةٍ ولا تجريح للمخالفين.

الأصل الرابع
"والتمائم والرقى والوَدعُ والرَمْلُ والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب, وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته، إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة".

هذا الأصل يُعالج:
- تنقية العقيدة من المكدرات
- المنكر الذي تجب محاربته
- تحرير العقول والقلوب من التعلق بالأوهام والخرافات
التمائم:: خرزات تعلَّق على الأولاد، يُعتقَد أنها تدفع عنهم الآفات ويتقون بها العين، ويجلبون بها النفع.
الرُّقَى: العُوذة أو التعويذة التي يُرقَى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع.
الودع: شيء يخرج من البحر يُشبه الصدف يتقون به العين.
المعرفة: ادعاء معرفة الأمور بمقدِّمات يُستدلُّ بها على المسروق ومكان الضالة والمخبوء ونحو ذلك.
الكهانة: الإخبار عن المغيبات في المستقبل، أو ما يُخبر عما في الضمير.

أدلة التحريم:
- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من علَّق تميمة فقد أشرك"، وقال: "إن الرقى والتمائم والتِّولة شرك" التِّولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يُحبَّب المرأة لزوجها، والرجل لزوجته، والمراد بالرقى والتمائم ما كان بألفاظ وعبارات شرك، أما إذا كانت التمائم بآياتٍ قرآنيةٍ وأدعيةٍ مأثورةٍ ففيها خلافٌ وسيُذكَر بعد ذلك.
- الضارّ والنافع هو الله وحده، فمن اعتقد في شيء أنه يضرُّ أو ينفع من دون الله فقد اختلَّت عقيدته ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا﴾ (الفرقان: 3) ﴿قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النمل: 65).

حكم الرقى والتمائم القرآنية والمأثورة كما يرويها الشيخ الخطيب:
بالنسبة للرقية قال السيوطي: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
1- أن يكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
2- وباللسان العربي وما يعُرف معناه.
3- وأن يُعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها وإنما بتقدير الله.
أما بالنسبة للتمائم: فقد رخَّص بعض السلف وبعضهم لم يرخص، فمن اطمأن قلبُه للمنع منع، ومن اطمأن قلبه للإباحة أباح دون أن يُلزم أحدٌ الآخر.

الأصل الخامس
"ورأي الإمام ونائبه فيما لا نصَّ فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدةً وفي المصالح المرسلة معمولٌ به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية, وقد يتغيَّر بحسب الظروف والعرف والعادات, والأصل في العبادات التعبُّد دون الالتفات إلى المعاني, وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد".

هذا الأصل يُعالج:
- رأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه
- المصالح وأنواعها وحكمها
- الأصل في الأشياء الإباحة
- الأصل في العادات والعبادات
مواصفات الإمام: أن يكون ذا بصيرة بشرع الله ومعرفة بأحكامه تمكنه من إدراك الأمور، وأن يكون مخلصًا لا صاحب هوى.. هذا إن لم يكن من أهل الاجتهاد.

دوائر العمل برأي الإمام:
- ما لا نصَّ فيه، لفظ "نص" يراد به تارةً ألفاظ الكتاب والسنة، سواءٌ كان اللفظ دلالته قطعيةً أو ظاهرةً، ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض كقوله "تلك عشرة كاملة".
- ما يحتمل وجوهًا عدةً: وهي الأمور التي وردت فيها أدلة، وهذه الأدلة تضع أمام الحاكم عدة وجوه في المسألة، فللحاكم أن يتخيَّر أحد هذه الوجوه حسب ما يراه من المصلحة، كمعاملة الأسرى في حرب مشروعة.
المصالح المرسلة: المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المفسدة:
1- المصالح المعتبرة: هي التي شهد لها الشارع بالاعتبار، بأن شرع لها الأحكام الموصلة إليها، مثل: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، فقد شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحدّ الشرب لحفظ العقل، وحد الزنى والقذف لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال.
2- المصالح الملغاة: هي التي أهدرَها الشارعُ بما شرعه من أحكام تدل على عدم اعتبارها، مثل: مصلحة الأنثى في مساواتها لأخيها في الميراث.
3- المصالح المرسلة: هي التي لم ينص الشارع على اعتبارها ولا إلغائها فهي مصلحة؛ لأنها تجلب نفعًا وتدفع ضرًّا، وهي مرسلة؛ لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه، مثل: جمع القرآن في مصحف واحد، وتدوين الدواوين.

شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
1- أن تكون مصلحة حقيقية لا وهمية.
2- أن تكون مصلحة عامة لا شخصية.
3- ألا تعارض حكمًا ثابتًا بالنص أو الإجماع

الفرق بين الدوائر الثلاثة:
دائرة ما لا نص فيه: يوجد دليل شرعي من قرآن أو سنة، ولكن الغائب هو تحديد الدلالة والقطع بها.
دائرة ما يحتمل وجوهًا عدةً: فهي يوجد فيها الدليل الشرعي، ولكن الدلالة هنا واضحة ومحددة الوجوه، فما على الإمام إلا أن يختار وجهًا من هذه الوجوه.
دائرة المصالح المرسلة: فلا يوجد فيها دليلٌ أصلاً، لا بالتأييد ولا بالنفي، إنما مسكوت عنها.العمل برأي الإمام مشروط بعدم الاصطدام بقاعدة شرعية، وإذا حدث فإنه حينئذ يُهدَر ويُلغَى ويقدَّم الثابت من القرآن والسنة.
تغيُّر الرأي بحسب الظرف والعرف والعادات، مثل: منع عمر بيع أمهات الأولاد، وقد كان هذا البيع ماضيًا في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، ومثل: تسوية أبي بكر للسابقين إلى الإسلام واللاحقين في العطاء، فلما تولَّى عمر فضَّل السابقين على اللاحقين.ما يُلزم فيه برأي الإمام وما لا يُلزم:
من الأمور التي لا يلزم فيها برأي الإمام الأمور العامة الكلية التي أمر اللهُ جميعَ الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها، مثل التنازع في قوله ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ هل المراد به الجماع؟! أو المراد به اللمس بجميع البشرة؟!

الأمور التي يلزم فيها برأيه هي التي تحتاج إلى حسْمٍ لينفذ الآراء فيها، كأحكام القضاء والحرب وما يتعلق بها، والأمور التي يترتب عليها مصالح عملية في حياة الناس لا إنكار على الإمام في اختياره.

الأصل في العبادات التعبُّد: يوضح الإمام الشهيد هاهنا قاعدةًَ مهمة وهي أن الأصل في العبادات التي شرعها الله وحدَّد صورَها وأوقاتَها وشروطَها وزمانَها ومكانَها.. التعبد، أي الانقياد لأوامر الله، معظِّمين إياه، واقِفِين عند ما حدَّده الشرع، غير ملتفتين إلى البحث عن حِكَمِ ذلك وأسرارِه وعللِه، وإن كنا نؤمن أن ذلك ما شُرِع إلا لحكمةٍ يعلمها الله وقد يوضح لنا بعضها وهو قليل.

ومن أمثلة العبادات التي هي للتعبُّد الطهارة: فإنها تكون بالماء الطهور وإن أمكنك النظافة بغيره، والصوم فإنه محدَّد بوقت بداية ونهاية ويكون عن أشياء مخصوصة.

ومقصد الإمام الشهيد: أن اجتهاد الإمام وأي شخص كان لا يتطرَّق إلى دائرة العبادات؛ بحجة المصلحة أو التوسعة على الناس،ومن أمثلة ذلك: أن يجتهد في نقل صلاة الجمعة من يوم الجمعة إلى يوم آخر؛ لأن الناس مشغولون يوم الجمعة ومتفرغون في ذلك اليوم.. أو يجتهد في أن يكون الصيام محددًا بعدد من الساعات في أي وقت من اليوم والليلة بدلاً من التقيُّد بالفجر والغروب، أو أن يكون رمي الجمار في غير مكان العقبة.

بعد بيان الأصل في العبادات يأتي بيان الأصل في العاديات وهو الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد، ومقصد الإمام الشهيد أن اجتهاد الإمام ونائبه يُعمل به في هذه الدائرة.

الأصل السادس
"وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم- صلى الله عليه وسلم- وكل ما جاء عن السلف- رضوان الله عليهم- موافقًا للكتاب والسنة قبلناه, وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص- فيما اختلف فيه- بطعن أو تجريح, ونَكِلُهم إلى نياتهم وقد أفضوا إلى ما قدموا".

هذا الأصل يُعالج:
- لا عصمة لغير الرسول- صلى الله عليه وسلم-: فالرسول- صلى الله عليه وسلم- هو وحده المعصوم؛ لأنه الهادي إلى الصراط المستقيم ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3، 4)، وقد أوجب الله عز وجل له وحده- صلى الله عليه وسلم- الطاعة والاتباع ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر: من الآية 7)، وقد قال الإمام مالك- رحمه الله-: "كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
- احترام العلم والعلماء لا التعصب، فالعلماء ورثة الأنبياء، وكل أمة علماؤها شرارُها إلا أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فعلماؤها خيارها، من أجل هذا وجب احترامهم وتوقيرهم والتأدب معهم، ولقد حرص الإمام الشهيد- رحمه الله- على تقرير ذلك في هذا الأصل، فتبايُن وجهات النظر في المسائل الاجتهادية لا يجوز في فقْه الإسلام أن يُتخذَ تُكأةً للسبِّ والانتقاص، والتشكيك في النوايا، الواجب فيما اختلف فيه أن نبيِّنَ الراجِحَ والأصوب بكل عفَّة وأدَب ودون نَيلٍ من الغير؛ حتى تتآلف القلوب وتصفو النفوس، أما المهاترات والطعن والتجريح، فيؤدي إلى الفرقة وتشاحن النفوس.
- موقفنا عما جاء عن السلف: ما جاء عن السلف- رضي الله عنهم- يُعرَض على الكتاب والسنة؛ لأنهما المصدران العاصمان للأحكام، فإن اتفق معهما قبلناه بكل رضَى وتقدير، وإن غاب عنهم شيء أو خفي عليهم فاجتهدوا ولم يصيبوا ثم تجلى حكم الكتاب والسنة يجب على المسلم أن يأخذ بما يدل عليه الكتاب والسنة، قال أبو حنيفة رحمة الله: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخالفه؟! قال: اتركوا قولي لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأصل السابع
"ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إمامًا من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرُّف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحَّ عنده صلاح من أرشده وكفايته, وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر".

هذا الأصل يُعالج:
- قضية الاجتهاد والتقليد
- المذهبية وهل للعامي أن يتبع مذهبًا؟
- عدم التعصب للمذاهب
وتتضح هنا وسطية الإمام الشهيد؛ حيث يبيِّن- رحمه الله- أن التقليد جائزٌ للعاجز، والاجتهاد جائزٌ للقادر، وهذا الرأي هو ما عليه جماهير الأمة، بخلاف من أوجبوا الاجتهاد على الجميع وحرموا التقليد والعكس.. يقول شيخ الإسلام بن تيمية: "واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوّغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق".

نصائح للمقلد:
- الاجتهاد بقدر الاستطاعة في معرفة الدليل؛ ليكون الاتباع أثلجَ للصدر، وأهدأَ للنفس، وأكثرَ نورًا وبصيرةً.
- قبول إرشاد مَن يفوقهم في العلم إذا دعوهم إلى حكم يخالف ما اعتادوه؛ لأن دليل ما اعتادوه مرجوح وقد تبيَّنوا ذلك.
- واشترط الإمام الشهيد فيمن ينصح ويرشد أن يكون معروفًا موثقًا ذا صلاح وكفاية عند المنصوح؛ لأن العامي لا يثق إلا فيمن يعرفه.
- وحثّ من عنده قدرة على طلب العلم على مزيد من الجهد والاطلاع والبحث والنظر في الأدلة المختلفة وتمحيصها والترجيح بينها.

الأصل الثامن
"والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببًا للتفرق في الدين, ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره, ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة, من غير أن يجرَّ ذلك إلى المراء المذموم والتعصب".

هذا الأصل يُعالج:
- الخلاف الفقهي في الفروع
-أنواع الخلاف
- المختلف فيه لا إنكار فيه
- نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه
قال صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل".. الخلاف الفقهي لا يفرق:
- لأن الخلاف الفقهي ضرورة لا بد منها.
- لأن كلَّ من يأخذ برأي إمام يقصد طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
- لأن أُلفة القلوب أعظم من أن ينال منها خلاف فقهي.
- لنا في الجيل الذي ربَّاه الرسول- صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ، فقد كانوا يختلفون في الأمور الفقهية، ولكن لا يتفرقون ولا يتباغضون.

لكل مجتهد أجره: ينبغي أن يُعلَمَ أن من يختلفون في الفقهيات.. أن كل من بذل جهده لمعرفة حكم الله فهو مثاب، سواءٌ أخطأ أم أصاب، فلماذا التناحر والتخاصم؟! قال- صلى الله عليه وسلم-: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

ترك المراء والتعصب: وأخيرًا حذر الإمام الشهيد مَنْ يختلفون في الفروع الفقهية من آفة خطيرة، تهلك الأمم وتضل أصحابها، إنها آفة المراء والتعصب، قال- صلى الله عليه وسلم-: "ما ضلَّ قومٌ بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، فينبغي تركه للمحافظة على أخوَّة الدِّين وأُلفة القلوب فإنها أعظم وأولى.

الأصل التاسع
"وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نُهينا عنه شرعًا, ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع, والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلمُ بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب- رضوان الله عليهم- وما شجر بينهم من خلاف, ولكلٍّ منهم فضلُ صحبته وجزاءُ نيته وفي التأول مندوحة".

هذا الأصل يُعالج:
- عدم الخوض في المسائل التي لا يبنَى عليها عملٌ
- قيمة الوقت بالنسبة للمسلم
- آفات اللسان وإمساكه
- عدم الخوض والكلام في المفاضلة بين الصحابة
- قيمة الوقت في القول السديد والعمل السليم

قاعدة عظيمة: في هذا الأصل يضع الإمام الشهيد أمامَ المسلم قاعدةً تحفظ جهده من الضياع، وطاقته من التبدُّد، والقلوب من التفرق، وتجعله عمليًّا بنَّاءً، لا نظريًّا جدليًّا متكلفًا، فحثَّ على الاشتغال بما ينفع في الدنيا والآخرة، وهو كثيرٌ كثيرٌ ويستغرق كلَّ الجهود ويزيد عنها، وحذَّر من الخوض فيما ليس تحته عمل.

السؤال عما لم يقع:
إن همَّة المسلم الداعية ينبغي أن توجَّه نحو ما أمر الله به ليفعلَه وما نهى عنه ليجتنبَه، ويسأل عما يواجهه من أحداث ووقائع ليستبينَ حكمَ الله ويلتزمه، أما كثرة الأسئلة عما لم يقع وعما عفا الله عنه فليس من هدي الإسلام.. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم".

لقد كان الإمام الشهيد دقيقًا عندما أنكر (كثرة التفريعات) لا كلَّها، فإن بعضها يُحتاج إليه، جاء في الموافقات للشاطبي: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوضٌ فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعًا".الخوض في الآيات العلمية:
من الأمور التي عدَّها الإمام الشهيد من التكلف المنهي عنه لقلة جدواها أو عدمها "الخوض في معاني الآيات القرآنية التي لم يصل إليها العلم بعد"، فالقرآن الكريم أولاً كتاب هداية ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ (الإسراء: 9).

وقد أشار القرآن إلى بعض الحقائق العلمية قبل أن يكتشفَها العلماء، وفي ذلك تثبيتٌ للمؤمنين، وليس القرآن قاموسًا للعلوم التطبيقية، ولقد افتتن كثيرٌ من الناس بالاكتشافات العلمية الحديثة، ووقفوا موقفين متضادَّين: فريق انبهر وغالَى، وفريق أنكر ورفض، وقف الإمام الشهيد موقفًا وسطًا يأخذ خيرَ ما عند الفريقَين ويدَع ما سواه، فأنكر الخوض فيما لم يصل إليه العلم بعد، أما ما ثبت حقيقةً وله وجودٌ في القرآن فلا مانعَ من بيانه بل هو من محاسنه.

المفاضلة بين الأصحاب وخلافهم:
لقد أثنى الله تبارك وتعالى ورسوله على الصحابة الكرام ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ (الفتح: من الآية 18) وقال- صلى الله عليه وسلم- "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وقد عدَّ الإمام الشهيد الخوض فيما شجرَ بين الصحابة من المنهيِّ عنه لأنه بابٌ للقدح، ومدخلٌ للشيطان والفرقة، وما علينا إلا أن نتعظ بسيرتهم، فقد أفضَوا إلى ما قدموا.. قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "هذه دماء قد طهَّر الله منها أسنَّتَنا، فلنطهر منها ألسنتنا".

فواجبنا أن نطويَ هذه الصفحات، وأن نطيلَ النظر في صفحات الجهاد والثبات، والبذل والعطاء، والتضحية والفداء، والصحبة والإخاء، حتى ننطلق للبناء.

الأصل العاشر
"ومعرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من التشابه, نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل, ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء, ويسعنا ما وسع رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ (آل عمران: من الآية 7).

هذا الأصل يُعالج:
- قضية الأسماء والصفات
- آراء الفرق الإسلامية فيها
- رأي السلف الذي ندين به

في هذا الأصل يوضح الإمام الشهيد مكانة التوحيد بين عقائد الإسلام، ويبيِّن الموقف الوسط من آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة.
واجب المسلم نحو أسمى العقائد:
- معرفة يقينية لا ذهنية
- توحيد صادق لا ريب فيه
- اعتقاد الكمال لله وتنزيهه عن كل نقص

الموقف من الصفات:
واجب المسلم أن يثبتَ لربه كلَّ صفات الكمال وأن ينزَّهَه عن كلِّ نقص؛ ولذا عمد الإمام الشهيد إلى موقف حكيم:
1- إيمان بها بلا تأويل ولا تعطيل: وهذا مذهب السلف الأعلم والأحكم والأسلم، ونفي التأويل أي صرف اللفظ عن معناه الراجح القريب إلى المرجوح البعيد بلا قرينة توجب ذلك، وأن نقف عند المعنى على ما يليق بجلال الله، والتعطيل معناه: نفي مدلولات الألفاظ التي تصف الله تعالى نفيًا مطلقًا، فالله تعالى عند المعطلة لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر.
2- الكف عن نزاع العلماء: لقد حدث نزاعٌ طويلٌ بين العلماء حول هذا الجانب، وكان له أثره على وحدة المسلمين، والإمام الشهيد يدرك هذا، ويريد أن يجمع قلوب الأمة، ولا يمكن جمعها إلا على الإجمال الثابت بالنص والإجماع وترك التفصيل المتنازع فيه في هذا المقام.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكن أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع".. يقول الإمام الشهيد في رسالة (العقائد): انقسم الناس في هذه المسالة إلى أربع فرق:
1- فرقة أخذت بظواهرها كما هي: فنسبت لله وجوهًا كوجوه الخلق, ويدًا أو أياديَ كأيديهم, وضحكًا كضحكهم, وهكذا حتى فرضوا الإله شيخًا, وبعضهم فرضه شابًا, وهؤلاء هم المجسِّمة والمشبِّهة, وليسوا من الإسلام في شيء, وليس لقولهم نصيب من الصحة, ويكفي في الردِّ عليهم, قول الله تبارك وتعالى:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الشورى: من الآية 11) وقوله تعالى:﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص).
2- فرقة عطَّلت معاني هذه الألفاظ على أي وجه.. يقصدون بذلك نفي مدلولاتها مطلقًا عن الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر؛ لأن ذلك لا يكن إلا بجارحة، والجوارح يجب أن تنفي عنه سبحانه، فبذلك يعطلون صفات الله تبارك وتعالى ويتظاهرون بتقديسه, وهؤلاء هم المعطِّلة، ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية: (الجهمية)، ولا أظنُّ أن أحدًا عنده مُسْكَةٌ من عقل يستسيغ هذا القول المتهافت!! وها قد ثبت الكلام والسمع والبصر لبعض الخلائق بغير جارحة, فكيف يتوقف كلام الحق- تبارك وتعالى- على الجوارح؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

هذان رأيان باطلان لا حظَّ لهما من النظر, وبقي أمامنا رأيان هما محلّ أنظار العلماء في العقائد, وهما رأي السلف ورأي الخلف.
3- أما السلف رضوان الله عليهم فقالوا: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت، ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى، فهم يثبتون اليد والعين والأعين والاستواء والضحك والتعجب.. إلخ, وكل ذلك بمعانٍ لا ندركها, ونترك لله تبارك وتعالى الإحاطة بعلمها, لا سيما وقد نُهينا عن ذلك في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "تفكروا في خلق الله, ولا تتفكروا في الله, فإنكم لن تقدروا قدره".
4- فأما الخلف فقد قالوا: إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها, وعلى ذلك فهي مجازاتٌ لا مانع من تأويلها, فأخذوا يؤولون (الوجه) بالذات و(اليد) بالقدرة، وما إلى ذلك هربًا من شبهة التشبيه.. يقول الإمام الشهيد في رسالة (العقائد): قد علمت أن مذهب السلف في الآيات المتشابهات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن يُمرروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه، وعلمت أن الخلافَ شديدٌ بين أهل الرأيين حتى أدَّى بينهما إلى التنابز بالألقاب العصبية، وبيان ذلك من عدة أوجه:
أولاً: اتفق الفريقان على تنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه.
ثانيًا: كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله تبارك وتعالى غير ظواهرها التي وُضعت لها هذه الألفاظ في حق المخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه.
ثالثًا: كلٌّ من الفريقين يعلم أن الألفاظ تُوضع للتعبير عما يجول في النفوس، أو يقع تحت الحواس مما يتعلق بأصحاب اللغة وواضعيها، وأن اللغات مهما اتسعت لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى من هذا القبيل، فاللغة أقصر من أن تواتيَنا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق، فالتحكُّم في تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير.

وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما في أن الخلَف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك؛ حفظًا لعقائد العوامّ من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجَّةً ولا إعناتًا.

ونحن نعتقد أن رأيَ السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلمُ وأولى بالاتباع؛ حسمًا لمادة التأويل والتعطيل، فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان، وأثلج صدره ببرد اليقين، فلا تعدل به بديلاً، ونعتقد إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجِب الحكم عليهم بكفرٍ ولا فسوقٍ، ولا تستدعي هذا النزاعَ الطويل بينهم وبين غيرهم قديمًا وحديثًا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله، وقد لجأ أشدُّ الناس تمسكًا برأي السلف- رضوان الله عليهم- إلى التأويل في عدة مواطن، وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، من ذلك تأويله لحديث: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه" وقوله- صلى الله عليه وسلم-: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن".

وخلاصة هذا البحث أن السلف والخلف قد اتفقا على أن المراد غير الظاهر المتعارَف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة، واتفقا كذلك على أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع، وهو هيِّنٌ كما ترى، وأمرٌ لجأ إليه بعضُ السلف أنفسهم، وأهمُّ ما يجب أن تتوجه إليه هممُ المسلمين الآن توحيدُ الصفوف، وجمعُ الكلمة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، والله حسبنا ونعم الوكيل.

ليست هناك تعليقات: