السبت، 28 أغسطس 2010

رمضان.. فضائل وواجبات

بقلم: وليد شلبي


لقد أظلتنا نسمات شهر رمضان شهر الخير والبركة والمغفرة والرضوان، وفيه التسابق للخيرات، ومَن حُرم خيره فقد حُرم؛ لذا فعلينا الاستفادة منه وحسن توظيف أوقاتنا فيه حتى ننعم بالفيوضات والنعم الإلهية، وقد وردت في فضائل هذا الشهر الكريم العديد من الآيات والأحاديث نذكر بعضها، فهو:

- شهرٌ.. أُنزل فيه القرآن: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: من الآية 185)، القرآن دستور الأمة، الكتاب المبين والصراط المستقيم، فلنبين للناس كيفية معايشته والتعامل معه في هذا الشهر الكريم والعناية به تلاوةً وحفظًا وسماعًا وتفسيرًا، وتدبرًا، وعملاً وتطبيقًا.


- شهرٌ.. تُفتح فيه أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفَّد مردة الشياطين، قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فُتِّحت أبواب السماء، وغُلقت أبواب جهنم، وسُلسلت الشياطين"، وفي رواية: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة" (البخاري).

شهرٌ.. فيه تُضاعف الحسنات.

- شهرٌ.. فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة من حُرم أجرها فقد حُرِم خيرًا كثيرًا، قال صلى الله عليه وسلم: "فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، مَن حُرِم خيرها فقد حُرِم" (أحمد والنسائي وهو صحيح)، ومن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، قال: "مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" (متفق عليه).


- شهرٌ.. العمرة فيه تعدل حجة مع النبي، قال عليه الصلاة والسلام: "عمرة في رمضان تعدل حجة" أو قال "حجة معي".


- شهرٌ.. فيه تضاعف الأعمال عن غيره، فعندما سُئل المصطفى أي الصدقة أفضل قال: "صدقةٌ في رمضان" (الترمذي والبيهقي).



- شهرٌ.. وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، وهي الغزوة الفاصلة في تاريخنا الإسلامي وكانت فرقانًا وتنزلت فيها الملائكة للقتال مع المؤمنين، فكان النصر المبين، واندحر بذلك الشرك والمشركون.


- شهرٌ.. فتحت فيه مكة، وهو الفتح الذي منه انبثق نور الإسلام شرقًا وغربًا، وعلى إثره دخل الناس في دين الله أفواجًا، وأصبحت مكة دار إسلام، وتمت بعده الفتوحات الإسلامية في كل مكان.


- شهرٌ.. من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" (مسلم).

- شهرٌ.. فيه صلاة التراويح، التي يجتمع لها المسلمون جميعًا رجالاً ونساءً في بيوت الله تعالى لأدائها، والتي لا يجتمعون في غيره لأدائها.


- شهرٌ.. يتحقق فيه ركنٌ من أركان الإسلام؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام" (متفق عليه).


- شهرٌ.. تتحقق فيه التقوى بأجل صورها قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة).


- شهرٌ.. تتجلى فيه أعظم مظاهر الخير والإقبال على المساجد، وهو ما لا نجده في غير هذا الشهر العظيم المبارك.


فهذا شهر هذه فضائله وتلك هباته وعطاياه، فينبغي علينا استغلاله أفضل استغلال واستثماره أفضل استثمار والاستفادة من أوقاته وحسن توظيفها التوظيف الأمثل؛ لنتعرض لرحمات الله وفيوضاته ونعمه، آملين منه سبحانه أن يتقبله منا وأن يغفر لنا ويرحمنا فيه.


أي رمضان نريد؟!
ويتبقى في الختام سؤال محوري ومهم يجب أن نسأله لأنفسنا أي رمضان نريد؟


نحن نريد (وندعو الله أن يرزقنا إياه):

- رمضان الذي يزيد من تقوى الله.

- رمضان الذي يزيد من صلة الرحم والطاعات والقربات

- رمضان الذي نعايش فيه القرآن وظلاله ومعانيه

- رمضان يشحذ الهمة ويجدد الأمل في النفوس

- رمضان يوحد الصفوف ويجمع الكلمة.

- رمضان يرسخ الفهم السليم ويبين الفقه القويم.

- رمضان الذي يزيد من صلتنا بالمساجد.

- رمضان الذي نُحيي فيه المعاني الحقيقة للصوم كما يريده ربنا عز وجل.

- رمضان الذي يبث روح الإيجابية في النفوس.

- رمضان الذي يزيد من الإحسان للناس جميعًا وللجار خصوصًا.

- رمضان.. الذي يزيد التضحية والبذل.

- رمضان.. الذي يزيد الصبر والمثابرة.



واجبات عملية في رمضان

- أن نجدد نيتنا فإنه لا أجر لمن صامه بلا نية.

- أن نكثر فيه من معايشة القرآن الكريم تلاوةً وحفظًا وسماعًا وعملاً.

- أن نتوب فيه توبةً نصوحًا لله عز وجل.

- أن تصوم جميع الجوارح عما حرَّم الله عز وجل.

- أن نُعمِّر لياليه بالذكر والصلاة، وأن لا نعمر لياليه بالسهر الذي لا فائدةَ من ورائه.

- أن نكثر فيه من الذكر والدعاء والاستغفار والتضرع إلى الله سبحانه.

- أن نحافظ على الصلوات الخمس جماعةً في بيوت الله تعالى.

- أن نُكثر من المكث في المساجد.

- أن نعد جدولاً بالزيارات الهادفة للأرحام والأقارب والجيران.

- أن نقلل من مشاهدتنا للتلفزيون لأقل قدرٍ ممكن.


هذا شهر رمضان.. شهر القرب من الجنان.. شهر البعد عن النيران.. فأين نحن منه ومن معايشته والاستفادة القصوى منه، وليكن لنا أسوةً وقدوةً في المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الذين سمعوا داعي الله فأجابوه، وعندما تُليت عليهم آيات الله وجلت لها قلوبهم، وكانوا إذا صاموا صامَت منهم الألسن والأسماع والأبصار، وحققوا الصوم بمعانيه الحقيقية لذلك استحقوا نصر الله وتأييده ومعيته.. فاللهم تقبَّل منا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه وتطبيق معانيه على أنفسنا ومن نعول.

وقفات مع الدعاة في رمضان

بقلم: وليد شلبي


إن من نفحات الله المباركة علينا شهر رمضان المبارك؛ الذي يُعد مدرسةً للأمة للتقربِ إلى ربها، وتنقيةِ نفوسها، ومراجعةِ أهدافها وخطواتها، واغتنامُ هذه الفرصة الثمينة والهدية الربانية خيرُ زاد للسائرين على طريق الدعوة إلى الله.

شهر رمضان الكريم مليء بالخيرات والبركات والنفحات التي ينبغي لنا- كلٌّ حسب موقعه وعلمه- أن ينهل منها ويستزيد؛ طاعة وقربى إلى الله، واستزادة من الخيرات في هذا الشهر الكريم، مصداقًا لقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: "لو علمت أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان"، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم".


وفي طليعة من يجب عليهم الاستزادة من خيرات رمضان وفيوضاته هم الدعاة إلى الله؛ حيث إنهم طليعة الأمة وقادتها ومُثُلَها العليا، وهكذا يجب أن يكونوا.


واستزادة الدعاة إنما تكون على عدة مستويات سواء كانت شخصية أو عامة:

فعلى المستوى الشخصي ينبغي على الداعية الاستزادة من الخير والثواب والفرص الإلهية والمنح الربانية في رمضان، ومن ثم يدلوا الأمة عليها، ففاقد الشيء لا يعطيه.

وعلى المستوى العام يجب عليهم الحركة والتأثير الفعال في المجتمع، وليكونوا متمثلين بالقرآن وآدابه وتعاليمه وأحكامه ليكونوا "قرآنًا يمشي على الأرض"، كما كان سيد الدعاة وإمامهم- صلى الله عليه وسلم-.


وهذا ما سنحاول طرحه في هذه السلسلة: كيف للداعية أن يجعل من رمضان نقطة انطلاق وتغيير له ولمجتمعه كله نحو الأفضل والأقوم بإذن الله؟.


- الوقفة الأولى: نفسك.. نقطة البدء:
وليعلم الداعية أن رمضان عنده ليس كما عند عامة الناس، فإنه مكلف أن يغتنم رمضان لنفسه أولاً، ثم يجعله للناس غنيمة ثانيًا.. إذ ما قيمة داعيةٍ استأثر برمضان لنفسه في مسجده أو معتكفه؟



وما فائدة الداعية إن لم يغنم لدعوته ثلة من الناس في رمضان؟



إن الغنائم الرمضانية ليست من نصيب الدعاة وحدهم باخلين بها على من سواهم.
فكل داعية بهمته فمنهم من يؤجر بأجر عشرة، ومنهم بمائة ومائتين، وغيرهم بألف وألفين.. فاشحذ همتك وشمِّر عن ساعدك، واطمح أن تُؤجر في رمضان بعدة آلاف أو ملايين وما يدريك ... ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (المطففين: من الآية 26)، ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: من الآية 54).



- استقبال المصطفى صلى الله عليه وسلم:

لذا كان النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- إذا استهل شهر رمضان استقبل القبلة بوجهه ثم قال: "اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.. هلال خير ورشد".


فبمثل هذا الاستقبال النبوي الكريم يجب أن تهتز نفوس الدعاة فيهبّوا لاستقبال رمضان كما استقبله النبي الكريم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وكلهم آمال، وألا تتعلق قلوبهم بسواه أو تحن أرواحهم إلى غيره.


وليستدبروا الدنيا بمتاعها وزينتها، محققين في أنفسهم قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (القصص: من الآية 60)، على المستوى الفردي.


فرمضان أفضل مدرسة تربوية لكي يتدرب فيها الداعية على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه في كل شيء، والتسليم لحكمه في كل شيء، وتنفيذ أوامره وشريعته في كل شيء، وليضبط جوارحه وأحاسيسه جميعًا عن كل ما لا ينبغي له فعله؛ ليتحصل على تقوى الله في كل وقت وحين.


وأول من ينبغي له الالتحاق بهذه المدرسة الفريدة هم الدعاة، ليستزيدوا من تربية أنفسهم، وتنقيتها مما علق بها على مدار العام، ويرفلوا في ثوب التقوى الرمضاني الفضفاض ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة)، فرمضان فرصة عظيمة للتزود من التقوى وتنميتها وترسيخ معانيها في النفس في هذا الشهر الكريم.


فليكن للداعية حال خاص مع الله في رمضان؛ ليحقق مفهوم الصوم الحقيقي على نفسه ابتداءً حتى يحقق التقوى الحقيقية فيما بعد، فليكن له حال مع المواظبة "صلاة الجماعة، وتلاوة ومدارسة القرآن، والإكثار من النوافل والأذكار الراتبة، وملازمة كثرة الذكر والاستغفار في كل الأوقات".


ولا ينسى نصيبه من قيام الليل، ومجالسة الصالحين، والمكث في المساجد، والمدارسة النافعة، وليكن له حال خاص مع القرآن تلاوةً ومدارسةً وفهمًا وتطبيقًا.


فهذه الطاعات وغيرها هي الوقود الدافع للداعية للحركة والتأثير بين الناس، فحسن الصلة بالله والإخبات له وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى هي من أهم المعينات للداعية على طريق الدعوة إلى الله.

فالداعية لا بد أن يكون قدوة صالحة يُقتدي بها، فلا يُعقل أن يدعو الناس للخير ولا يأتيه، بل عليه أن يقود الناس بفعله قبل قوله، فليرى الناس منَّا أفعالاً لا أقوالاً، وليؤثر الدعاة في الناس بحركتهم وأفعالهم بين الناس لا بخطبهم الرنانة والمواعظ المنمقة.


إن الدعاة هم حاملو مصابيح الهدى في الليالي الحالكة، ولذا فعليهم أن يجلوا عن أنفسهم ما علق بها من أدران خلال العام بالتزود بالخيرات والطاعات في هذا الشهر الفضيل؛ ليعينهم على الدعوة إلى الله على بصيرة طوال العام قائدين للأمة بحق نحو استعادة مجدها وعزها وكرامتها.


فرمضان فرصة عظيمة لتحقيق تقوى الله وتزكية النفس ففيه تصفد مردة الشياطين، فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، وفيه تُفتح أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما أعظمها من بشارة، فلنكن مسارعين إلى الخيرات، متنافسين في القربات، هاجرين للموبقات، تاركين للشهوات.


ولنجعل أخي الداعية من رمضان نقطة انطلاق وبدء نحو زيادة تقوى الله في نفوسنا وتربيتها تربية إيمانية كما يحب ربنا ويرضى، ولنعطي للأمة أفضل درس في كيفية الاقتداء بالمصطفى قولاً وعملاً، وكيفية إعطاء نماذج وضيئة يقتدي بها المجتمع كله.


- الوقفة الثانية: التفاعل مع قضايا الأمة:

إن من أهم معاني ودروس وقيم رمضان التي يغرسها في نفوسنا ويربينا عليها؛ الشعور بآلام وهموم الآخرين، وعدم المعيشة كلٌّ في جزيرة منعزلاً عن الآخر، فرمضان يعلمنا الوحدة والترابط والتماسك والتآلف.


فكوننا نصوم في وقت واحد ونفطر في وقت واحد ونلتزم بضوابط لازمة وحاكمة لصحة الصوم، ونتعهد بعضنا البعض لسد الاحتياجات والإعانة على مشقات الصوم وتبعاته، وكذلك حرصنا على صلاة الفروض والنوافل جماعة؛ فكل ذلك وغيره من حكم الصيام التي تجعلنا نهتم بغيرنا لإعانته على العبادة والطاعة.


هذا على المستوى الفردي، فما بالنا بالمستوى الجماعي والعام للأمة كلها وما آلت إليه من هوان لا يخفى على أحد؟! فإذا كان ذلك هو حال الأمة، فإن من أوجب واجبات الدعاة أن ينهضوا بما يفرضه عليهم دينهم وعلمهم بأن يهتموا بقضايا الأمة وبكل شئونها، وأن يجعلوا من رمضان فرصةً حقيقيةً لنشر هذه القضايا وزيادة الوعي بها وبحث كلِّ السبل الممكنة لعلاجها أو على الأقل محاولة علاجها والإعذار إلى الله وتقديم جهد المقل بها.


فرمضان فرصة للتلاقي بين الدعاة والناس، وفرصة لرقة القلوب وصلتها الوثيقة بالله ورقتها واستعدادها للتقبل، لذا فعلى الدعاة اغتنام هذه الفرص وحسن توظيفها لتنبيه الناس وتفعليهم مع قضايا أمتهم ومجتمعاتهم.


وفي مقدمة قضايا الأمة القضية الفلسطينية- قضية العرب والمسلمين المحورية- والتي ينبغي علينا جميعًا دعاة ومدعوين أن نبرزها ونبحث كيفية دعم أهالينا المحاصرين في الأرض المقدسة، وكيفية تفعيل الناس فيها، فيقول الله عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: من الآية92)، وقال سبحانه ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10).

وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

وعلى المستوى الداخلي نجد أن المرأة المسلمة تحارب في حجابها، والشباب يفتنون بوسائل الهدم وإغراءات الشيطان وملذات الهوى، وهو ما يتطلب من المسلم الصائم القائم أن يعايش هذه القضايا الكبرى بمشاعره بماله وبدعائه وبتوعيته لإخوانه المسلمين، وبالعمل الجاد لجمع كلمة المسلمين؛ ليكونوا صفًّا واحدًا ولا يتنازعوا فيفشلوا.



إن الواجب على الدعاة هو ضرورة تبصير الناس بقضايا الأمة وبيان ضرورة التفاعل معها والتأكيد على المعاني الشرعية والإيمانية في أهمية هذه القضايا، وحث الناس على البذل والتضحية من أجل هذه القضايا، والاستفادة من شهر رمضان وتضاعف الأجر فيه لزيادة العطاء وإعانة المحتاجين والملهوفين من إخواننا المسلمين في شتى البقاع.



وكذلك التأكيد على ألا يحقّر المسلم نفسه وعطاءه ففي كل مسلم خير، وأن نرسّخ مبدأ أن مساندة إخواني المسلمين ولو بالقليل هو لنصرة الإسلام وإفراغ للوسع والجهد.


وضرورة التأكيد على مراعاة فقه الأولويات، فإنه توفير للجهد والوقت، وألا ننفق الأموال على النوافل ونقدمها على دعم المحتاجين في عالمنا الإسلامي؟

مع ملاحظة أن البذل والعطاء والتضحية لا تقتصر على الماديات فقط، وبيان أن في الجوانب الروحية والإيمانية عطاءً وخيرًا أيضًا لمن لا يملك العطاء المادي ومن يملك أيضًا، ومن ذلك كثرة الدعاء عند الفطر، وفي أدبار الصلوات، وفي السحر وساعات القبول.



وضرورة التأكيد على أننا إذا نصرنا الله في إخواننا فسينصرنا الله على أعدائنا، فلنعمل جادين في هذا الشهر الفضيل على أن نحقق في ذوات نفوسنا قوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 7).


التركيز على الشباب

وكما يقول الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة إلى الشباب "ومن هنا كان الشباب قديمًا وحديثًا في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (الكهف: من الآية 13)".

فبالتركيز على الشباب وتنشيطهم وإفهامهم حقيقة قضايا الأمة وضرورة انشغالهم بها لا عنها، وضرورة أن يكونوا إيجابيين معها، وإحياء الحمية في نفوسهم ببعض الأسئلة مثل: فماذا قدمت لأمتك ودينك ووطنك؟.


وضرورة بيان عظم الدور الذي ينتظرهم، وضرب بعض الأمثال الإيجابية في الاهتمام بقضايا الأمة القديمة والحديثة.


والتركيز معهم على ضرورة تحديد الهدف والتركيز عليه، وعدم الالتفات إلى الملهيات عن تحقيق الأهداف، ومعرفة أنه كلما سَمَى الهدف سَمَى الجهد المبذول لتحقيقه، ومن هنا تبرز أهمية العمل الجاد والحثيث لدين الله، وبيان أن العمل لدين الله ونشر الدعوة أنبل المهام وأسمى المطالب، وهو وظيفة العمر كلها ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾ (فصلت)، وإن الدعوة ونشر الخير بين الناس ليس وقفًا على العلماء والدعاة وطلبة العلم، فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين، مهما كان خطؤه وتقصيره.


قال رسول الله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا؛ ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" (رواه مسلم).



- الوقفة الثالثة: رمضان فرصة حقيقة للتغيير:


إن من نفحات الله المباركة علينا شهر رمضان؛ الذي يُعد مدرسةً للتقربِ إلى الله، وتنقية النفوس، واغتنام هذه الهدية الربانية التي تعد خير زاد للسائرين على طريق الدعوة إلى الله؛ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم".


إننا بحاجة ماسَّة إلى أن نستثمر هذه النفحات الربانية في هذا الشهر الفضيل لتوجيه أنفسنا نحو الأفضل وعلاج ما بها من أسقام وعلل؛ فتزكو بروح الإيمان، وتسمو بفيض القرآن؛ وليكن رمضان محطة روحية تبعث فينا روح الجدية، لنعد عدتنا، ونأخذ أهبتنا.

ومن الثابت أن باعث التغيير داخليٌّ في الأساس، لذا فهو يكسب النفس ثقافةً وسلوكًا، يهيمن عليها وعلى سلوكها، ضابطًا لتصرفاتها، حاكمًا لكل تصوراتها، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس)؛ وذلك لكون المعركة الحقيقية إنما هي مع النفس قبل أن تكون مع الأعداء، وصدق ما عبَّر عنه الإمام البنا بقوله: "ميدانكم الأول أنفسكم؛ فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن أخفقتم في علاجها كنتم أمام غيرها أعجز".


ولقد يسَّر الله سبحانه وتعالى لنا سبل تغيير النفس في رمضان؛ فأبواب الخير مفتحة، ونوافذ الشر موصدة "إذا جاء رمضان، فُتِّحت أبواب الجنَّة، وغلِّقَت أبوابُ النار، وصفِّدَت الشياطين، ونادى منادٍ: يا باغِي الخير أقبل، ويا باغي الشر أَقصِر" (رواه الخمسة إلا أبا داود)، فماذا بعد بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين؟


ومن أهم شروط التغيير الرغبة الحقيقية في التغيير، ومعرفة كيفية التغيير، وأن يكون التغيير عملاً لا قولاً، وإدراك أن التغيير لا يأتي من الخارج بل يأتي من الداخل ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، ثم العزيمة الصادقة على القيام بهذا التغيير. والتحلي بإرادة صلبة، وعزيمة قوية، ولنكن مفعمين بالتفاؤل، ومجاهدين لأنفسنا، فرمضان فرصة عظيمة لتربية ذواتنا، وبناء علاقات إيجابية مع الآخرين.


إن تغيير النفوس للأفضل ليس أمنيةً مجردةً، بل هو حركة دءوبة على أرض الواقع، لتخلية النفس عن النقائص وتحليتها بكل ما يطهِّرها ليُرَى أثره في أقوالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا ومع أهلينا وجيراننا والناس من حولنا.

والدعاة جزء من المجتمع يصيبهم ما قد يصيبه من علل وأسقام. فقد تفتر همتك أخي الداعية وقد تضعف غيرتك على محرمات الإسلام وقد تتوانى عزيمتك.. فيأتي رمضان ليشد من أزرك ويوقظك من رقادك وينبهك من غفلتك.


فتتحرك بدعوتك، وتنشط بها، وتتفاعل مع أحداث مجتمعك، وتبتكر من الوسائل والأساليب التي تعينك على تحقيق ما تريد وما تصبو إليه؛ ولتتذكر أخي الحبيب سيرة حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكيف تتغلب على الصعاب وواجهها لتحقيق ما يريد؛ نصرة لدين الله وليكن شعارك قوله صلى الله عليه وسلم "لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم" (رواه البخاري).


إن أولى خطوات التغيير الحقيقي في هذا الشهر الكريم ينبغي أن ترتكز على الإخلاص التام لله والحياء منه وخشيته ومحاسبة النفس؛ ليكون ذلك دافعًا لنا طوال حياتنا بعد ذلك بإذن الله، كما علينا أن نتوب توبةً صادقةً نصوحًا؛ فإنها واجبة في كل وقت وحين، وهي في هذه الأيام الفضيلة أوجب، ولنحرص على الإكثار من العبادة في هذا الشهر، وخاصةً قيام الليل والتهجد وقراءة القرآن وتدبره ومعايشته وتطبيقه في ذات النفس وواقع الحياة، وذكر الله واستغفاره والدعاء والابتهال إليه، ولنحذر من الملهيات من حولنا حتى لا يضيع وقتنا، ولا ننسى الإكثار من التصدق والعطف على اليتامى والمساكين وإفطار الصائمين.


فلتتحرك أخي الحبيب وسط الناس وتخالطهم ولتبين لهم حقيقة الإسلام وشموله وعظمته، واحذر أخي الحبيب من التكبر على الناس بطاعة أو علم، فلتكن منهم وبينهم رفيقًا رحيمًا رءوفًا بهم مشفقًا عليهم.


فرمضان موسم التزاور والتقرب والاختلاط المحمود بين الناس؛ فلنجعله كذلك وزيادة بتحويل العادات إلى عبادات، وجعل نيتنا الدعوة إلى الله والتقرب إليه بتلك الزيارات، ووضع أهداف محددة لها وبذل الجهد لتحقيقها.


وإذا كنت قليل الصبر سريع الغضب فرمضان يعلمنا الصبر والأناة، فإذا كنت تصبر على الجوع والعطش والجهد والمشقة فقد آن لك أن تصبر على الناس وتصرفاتهم وأخلاقهم، وما قد يفعلونه تجاهك من أخطاء، وليكن شعـــارك دائما ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 134).


ولتتذكر أخي الحبيب أنك تفعل ذلك عبادة وطاعة وقربى لله سبحانه وتعالى، ولتصبر ولتحتسب، فأنت تغير من عاداتك التي ألفتها وجبلت عليها ابتغاء مرضاة الله، ولتوطن نفسك على ذلك في رمضان، ولتجعله نقطة بدء وانطلاق نحو تغيير نفسك للأفضل والأحسن؛ لتكون القدوة الصالحة في بيئتك ومجتمعك وبين أهلك وأحبابك.


ولنحاول جاهدين أن نصبح من المتقين المتأثرين بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة).

الجمعة، 30 مايو 2008

شرح رسالة المؤتمر السادس (2/2)

إعداد: وليد شلبي
توقفنا في الحلقة السابقة عند أن حركات الإصلاح التي سبقت الجماعة في عالمنا الإسلامي من حركات التجديد محسوبة عليها، وأن أي تجربة سابقة أنت محاسب عليها وتكرار الخطأ يعني مقتلاً سريعًا، والتعصب الكبير الذي يواجهه العمل الإسلامي المعاصر الآن وعدم القدرة على تحقيق النتائج وابتعاده، وبينه وبين العواقب والنتائج بون شاسع؛ وذلك كله يرجع إلى أن الجميع يعمل محتميًا بالإسلام، فبالنسبة للدعاة يعملون للإسلام وحقوقه، والخصوم يعملون للإسلام، والأمة أيضًا تعمل للإسلام.

فيجب على الداعية ألا يبقى في جانب المتفرج، بل يتحرك عندما يشعر بالقضية، ويشعر أنها تهمه وفي مصلحته، فهذا هو عمله أن يجعل الأمة تستشعر القضية، فهمُّ الدعاة أن يزيحوا الغموض وأن يوضحوا القضية، وهذا هو العمل الإسلامي بعيد عن أي إدارياتٍ أخرى، ويجب عليه أن يتحدث عن هذه الغاية دائمًا ويعمل لها.

فعندما أشار الإمام البنا إلى أن الخصوم يخونون إسلامهم وغايتهم بقوله: إن مطلبهم الحكومة المسلمة فقوة التنفيذ جزء من تعاليم الإسلام تؤيدها أمة مسلمة.. فرأى أن الحكومة خانت أمانة الله وأمانة الناس عندهم؛ فقد خانوا أمانة الله عندما التزموا الإسلام ولم يعملوا له، وخانوا الناس عندما أعلنوا في دستورها أن الدين الرسمي يكون للدولة المسلمة ولم يعملوا به فبذلك يجب عليها المجاهرة بأن وادي النيل هو حامل رسالة الإسلام ونفهمها ونُجليها للناس حتى يعملوا بها بدون مهادنةٍ أو معارضة فبذلك وضع الخصوم في خانة التخوين لأمانة الله والناس.

بين الدين والدولة
فكان الإمام البنا حريصًا على أن تكون قضية الإسلام قضيةً واضحةً لا تأخذ أي نوعٍ من الإجراءات والشكليات، ولا تُصور الجماعة على أنها صراعٌ سياسيٌّ فيستغل الخصم ذلك فيبعدك عن منطقة قوتك وهو انتماؤك للإسلام، ومن ناحية أخرى يسحب الأرض من تحت قدميك عندما يُظهرك للأمة والشعب أنك تصارع من أجل أغراضٍ تحققها لنفسك.

وذلك ما نجح فيه الإمام البنا، والدليل على ذلك مدة حياته الدعوية الـ20 عامًا واستمرارية عمله، فقد روى بعض الإخوان المسئولين عن النظام الخاص أن حسن البنا إن أراد أن يُحدث انقلابًا في الحكم لكان يحدث في يومٍ وليلة، فإنه لم يكن هناك مصلحة أو فئة أو طبقة في الأمة المصرية إلا وفيها العديد من الإخوان، ولكنه كان ينظر أن يستمر الدين، وإن ضاعت الدولة، فالدين هو مَن يصلح الأمة والدولة في الحقيقة هي تعبير عن مفاهيم الدين والأخلاق، وكان يهدف إلى القوة النافعة الجدية، ولم يتكلم عن الثورة المسلحة قط، وكان يقول عنها إن هذا الزمن قد انتهى تمامًا في ظل الظروف التاريخية الراهنة.

واعلم جيدًا أنك إن جئت بالقوة المسلحة أو السلطات والنفوذ فقد انتهيت، فإنه أكثر ما يقاوم من الجميع الخصوم والأمة، أما إذا جئت من قوة الجماهير وقوة الأمة وقوة العصيان وقوة الاحتجاج وقوة التظاهر تعني الأمة؛ أي تعني أن الأمة معك ممكن أن تؤدي إلى نتيجة، فلكي تنجح الدعوة يجب أن تتوفر الأمور الآتية: البساطة وحقائق الحياة حتى لا يوجد فيها إجهاد ذهني فيسهل فهمها وممكن أن أتقبلها فتعطيها المهابة.

البنا.. الرجل القرآني
وهذا بالتحديد ما أراده البنا، وكما قال عنه روبيير جاكسون إنه كان يستطيع أن يعبر عن معالم قضيته الكبرى بكلمات مفيدة فقد سألته: يومًا إلامَ تدعو؟ عندما تحدث البنا عن هذا الحوار قال إن جاكسون كان يستضيفه ليعمل حوارًا صحفيًّا يساعده في كتابه، ومن ذكاء الإمام كان يعلم أن هذا الأجنبي لا يحتاج إلى أن يشرح له فوائد الإسلام، وأنه صحفي يريد أن يأخذ كلمتين، فسأله الإمام رحمه الله أتعرف محمدًا قال جاكسون: "نعم"، فسأله الإمام: أتعرف ما صنع؟ قال: "نعم"، فقال الإمام: "نحن ندعو ما دعا إليه، ونصنع ما صنع"، فأدرك روبيير جاكسون مَن هو حسن البنا وكتب في مذكراته إن الأيام لن تبعده وإن حياته أكبر منه.. فقد جاء جاكسون ليكتب كتابًا عن العالم الإسلامي وعن مصر من الناحية السياسية والدينية فيها فلم يكتب الكتاب ولكن كتب (حسن البنا رجل قرآني).

فالإمام كان يؤمن بأن التغيير لا يحدث بانقلاب ولكن بإصلاح الأخلاق؛ فهي سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في التغيير وأنه لا يحدث إلا بإرادة الأمة فعندما سأله فريد عبد الخالق هل سيأتي يوم يعود النحاس مرةً أخرى؟ قال الإمام إن اختارته الأمة يحضر ثانيةً فإن الأمر ليس ثابتًا ولا يوجد شيء بالإكراه، وما تختاره الأمة يكون لها فإن اختارت الهيمنة فلتتحمل أعباء وتبعات الاختيار وتشعر بالحرج الشديد لاختياره.

وكان كل سعي وحرص الإمام البنا في صراعه، هو حرصه على الإسلام، وعلى أصوله، وعندما تكلم عن رجال الأحزاب عندما سُئل لما لا نواجههم فقال الإمام: نحن في حاجة إلى الجهد الذي يُبذل في الكفاح السلبي من أجل مهاجمتهم وأن ننفقه في عملٍ نافع وكفاح، ونتركهم للزمن فإن الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

القوة الحقيقية
ومن كلماته أننا لن نتقدم لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال فيكون حكمًا سلبيًّا ويظهر شائعات وسيئات الأمة ويملؤها بالعنفوان والخروج عن المألوف؛ فإن الأمة كثيرة الذنوب يكون الحكم فيها على هذه الحالة فيظهر بشاعتها وعنفوانها؛ فلذلك حرص الإمام أن يُقدم المصلحة العامة على الخاصة.

وفي بعض المطالبات في برلمانٍ أو خلافه يمكن أن تؤدي إلى استجابة؛ وذلك بعيدًا عن صور الضغط.. فأية رسالة يمكن أن تمارس نشاطها بعيدًا عن القوات المسلحة أو العنف، فهو مشروع طويل الأمل، فبذلك يكون لديك قوة جماهير هي التي تُطالب عنك لأنها تشعر أنك تعبر عن مفاهيم الدين والأخلاق لديها، وتوصل هذه الرسالة إلى رجل الشارع العادي؛ لأنه آلة التشريع والتنفيذ ووسيلة نقل رسالتك، وبالتالي جمهور الأمة أهم فهو المكافح معك من تحت قبة البرلمان، فإما أن يُستجاب لمطالبك وإما أن تُمنع أصلاً كما يحدث الآن، فسوف يكون معك جمهورٌ تكافح به ويساندك، فهذه قوة الجماهير فرجل الشارع يساندك ويساعدك طالما تتحدث معه بلسان الدين.

في عام 1961م، عندما عمل الرئيس جمال عبد الناصر مؤتمرًا قوميًّا وتكلم فيه الشيخ محمد الغزالي عن لباس المرأة ودعوته للاحتشام على العيان أمام الجميع ومباشرةً في اليوم التالي قام صلاح جاهين رسام الكاريكاتير المشهور بجريدة "الأهرام" بعمل صفحةٍ كاملةٍ سخريةً من الشيخ الغزالي، وكان المؤتمر يوم الخميس وظهرت الجريدة صباح الجمعة فخرجت الجماهير (عدة آلاف) بعد صلاة الجمعة من مسجدي الأزهر والحسين وبدون أي تنبيهٍ، وكان لا توجد أية قوة للإخوان على الساحة تحث الناس وتدعوهم إلى ذلك العمل.. خرجوا قائلين: "صلاح جاهين عدو الدين"، وقاموا بتقطيع الجريدة وذهبوا كل هذه المسافة إلى أن وصلوا إلى مبنى الأهرام يضربونه بالحجارة، واستمروا على ذلك حتى جاءت الشرطة وفرقتهم واعتقلت مَن اعتقلت منهم، وكان أحد المعتقلين واحدًا من الإخوان، كل هذا لمجرد أن صلاح جاهين تعرَّض للشيخ محمد الغزالي. وهذه المظاهرة خرجت تلقائيةً، فرجل الشارع اعتبر ما قام به صلاح جاهين يمس دينه وعقيدته، فقام يدافع عن دينه.

منهج البنا
وهذا ما أراده الإمام البنا، حيث كان حريصًا على أن تكون قضية الإسلام بعيدةً عن كل ما يشوبها من أن تكون صراعًا سياسيًّا أو صراعًا على السلطة، وإن ما اتصل بالإسلام من قضايا مثل الحرية فهي فريضة من فرائضه، ومواجهة الظلم، وهذا من أمر الإسلام، ومحاربة الفقر، ومحاربة الفرقة فهما من أسباب الهزيمة، وأن لا يكون له أي اعتماد إلا على قوة الجماهير.

ومن أقواله أن لا توجد أمة تتبوأ مكانتها في التاريخ إلا وهي غنية بأخلاقها، وكان هذا منهجه في تربية الأمة وهي تهذيب النفوس والأرواح وتزكية الأخلاق، فوفرة الأخلاق هي التي تصنع الأمة وتسير بها إلى ناحية مثمرة، وكما قال الشاعر:
قد كان فوت الموت سهلاً فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

فإن كان طريق الموت سهلاً فأتنازل عن المبادئ والأخلاق في تحقيق المنفعة الخاصة وغاية قريبة.

فكان الناس يقولون عن الإمام الشهيد- رحمه الله- إنه حرص على أمرين هامين طوال حياته وعرضها رغم قصرها؛ إذ لا يُعرف عنه أنه شيخ طريقة أو صاحب منفعة، فقد حرص أصحاب المنافع على عدم التقدم والإباحية والإبقاء على حالة التخلف الطبيعية وتأمين وجود الأجنبي المفيد لهم، أما الإمام البنا فقد حرص أن تتضح الوسائل منضبطة ووفرة أخلاق.

فهم البنا ونهايته
سؤال حائر لا يزال يدور معنا هل هناك ارتباط بين الإسلام كما كان يفهمه البنا ويدعو إليه وبين نهايته التي جاءت لحياته على نحوٍ غير مسبوق؟ طبعًا بلا شك مما أدى إلى ذكره في التاريخ؛ فقد كانت حياة الإمام صورةً لما جاء به، لم يكن أحد أوضح من الإمام وفي حماسه، وكما قال عدد من الإخوان مَن هم في سن الثمانينيات إن الإمام إذا كانت هناك أزمةٌ تمر بالدعوة تجد أنه أشد وضوحًا، ولا يُخفي شيئًا في كلامه، ولا يختبئ.. فمَن يفعل ذلك ممن هم أصحاب الغايات والمصالح الشخصية، فلما سمع الإمام بقرار حل الجماعة، وفي ذلك الوقت كان الإمام في الحج، ومن عادته أنه يجلس هناك فترة طويلة ليفتح أبوابًا جديدةً للإصلاح، فلما علم بأمر الحل اختصر المدة وعاد إلى مصر ليواجه الموقف بنفسه وكتب طلبًا لمقابلة النقراشي ليعرف سبب حل الجماعة، ولكن النقراشي رفض، وكان النقراشي يعلم أن البنا لا يُقاوم، ومع إصرار البنا وقوته وثقته بنفسه وإيمانه بدعوته جعل النقراشي يعدل عن تنفيذ القرار بحل الجماعة؛ وذلك لإيمانه بدعوتنا، وأنه لا يوجد شيء مخالف يستدعي الخصومة.

وكان الإمام يقول: نحن موقفنا من الحكومة- مع أننا لم نرَ منها إلا الوعود البراقة، وأنها السبب في انحدار الأمة- إلا أننا موقفنا منها بمثابة موقف الناصح الشفيق، نُقدم لهم الخير والمشاريع والأفكار، وهكذا لنُخرج الأمة من مأزقها.

عندما سُئل أحد الإخوان ما أهم صفات الإمام قال: إنه في الأزمات يظهر ويبرق لإيمانه العجيب وثقته بدعوته، فكان رجل إيمان ويخاطب أمةً فلا يصح أن يضحك عليها أو يسخر منها.

هل كان الإمام يختبئ في الأزمات؟
مَن قال في حقه ذلك أناسٌ مرضى بالفساد الأخلاقي، وهم نتيجة لكارثة أخلاقية لما مارسته الحكومات من الفساد والظلم والإباحية في حكمها فتفشى فيهم الفساد.

فالرسول- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يُوقِّع صلح الحديبية جاءه أبو جندل مسلمًا على أن لا يرده رسول الله، ولكن سهيل بن عامر والد أبي جندل جاء لرسول الله ليرد عليه أبا جندل فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: إننا لم نُوقِّع الاتفاق، فرد سهيل: ولكنك وعدت- أي أعطيت كلمة-، وأبو جندل يخاف الفتنة في دينه وقد بدا به الجزع إلى الإعياء، فجاء سيدنا عمر بن الخطاب يشحذ السيف أمام أبي جندل ويقول: والله إن كان أبي يردني عن ديني لقتلته دم الرجل بأبيه؛ يريد سيدنا عمر إنهاء القضية، ولكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "لقد أعطيناهم عهدًا لله وميثاقه، وأنَّا لا نغدر أبدًا.. اذهب معهم يا أبا جندل".

فكان الإمام يتعلم ممن سبقه، فيجب التعلم دائمًا مما سبقك فيعلمهم أن لا يدخلوا في أي منازعاتٍ حتى يحافظوا على غايتهم ويستمروا، فلا تستطيع أن تنسلخ أبدًا من التاريخ السابق لك في الإصلاح.

وأي عملٍ تقوم به يجب أن يكون مدروسًا ومخططًا له وتتلافى أخطاء الآخرين حتى لا تكون مقتلاً سريعًا، كل ما تجعل العمل بعيدًا عن صراعات فهذا أجدر ألا يستغله الخصم وأي عمل يستخدم العنف والسلاح وغير ذلك سوف يفيد الخصم، فسوف يأخذ الشكل والإجراءات ويبتعد عن المحتوى، فإنك في ذلك الوقت لا تحرص على الإسلام وغيره، بل تحرص على الفعل الذي تفعله الآن، وبالتالي يسحب الخصم البساطَ من تحت أقدامك ويجعل القضية ليست للإسلام بل للصدام والسلطة والاختلاف على مصالح سياسية فحسب.

ففي الظروف الحالية ستمر أوقات طويلة جدًّا حتى تستطيع الناس أن تصدقك حتى تعرف الأمة مصلحتها "أين ومع من"، فالجماعة مرت في تاريخها بوقتٍ طويل ومحن وأعمار ودماء قضيت وراء إنجاح العمل فأخذت الدليل على مصداقيتها.

شرح رسالة المؤتمر السادس (1/2)


إعداد: وليد شلبي*

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد
نستعرض اليوم شرحًا لرسالة المؤتمر السادس، والذي سنتاوله على مرحلتين: المرحلة الأولى وهي الحديث عن الخطوط العامة للرسالة ثم المرحلة الثانية والحديث فيها عن كيفية إدارة الصراع السياسي الذي ألمح إليه الإمام البنا في مضمون رسالته.

والمعروف عن رسائل الأستاذ الإمام البنا أنها عملٌ يخاطب الواقع.. ويمليه الواقع كذلك. وهذا المؤتمر له خصوصية غير المؤتمرات التي سبقته، حيث إنه آخر مؤتمر أقامه الإخوان، وبعد ذلك تداعت الأحداث، وكانت الحرب العالمية الثانية في أوجها في ذلك الوقت، هذا غير الأحداث الداخلية التي حدثت في مصر وأدَّت في النهاية إلى حل جماعة الإخوان بعد مقتل الخازندار ومقتل النقراشي ثم مقتل واستشهاد الإمام البنا رحمه الله.

وكان المؤتمر الأول الذي عقده الإخوان قد تكوَّن فيه مكتب الإرشاد وتكوَّن فيه قسم الأخوات، ثم المؤتمر الثاني في نفس العام 32/33، ثم المؤتمر كان الثالث في عام 34 وفي هذا المؤتمر قُدمت ورقة هامة رغم أن الجماعة في ذلك الوقت لم يمر عليها أكثر من ستة أعوام، فالجماعة أُنشئت سنة 28، وهذا المؤتمر الثالث كان في سنة 33؛ أي بعد مرور خمس سنوات فقط على الجماعة، ورغم ذلك قُدمت في هذا المؤتمر الورقة بعنوان (إلى أي مدى وصل الإخوان المسلمون وماذا يعوزون؟)، وكانت تُعتبر نقلةً نوعيةً في هذا المؤتمر؛ لأنه لأول مرة يحدث ما يُعرف بالمصطلح الحديث (النقد الذاتي).

ثم كان المؤتمر الرابع، ثم المؤتمر الخامس، وهو أيضًا من المؤتمرات الهامة جدًّا وأُعدت فيه ورقه هامة عُرفت بعد ذلك بـ(رسالة المؤتمر الخامس)، ومن نتيجة هذا المؤتمر الدعوة إلى البحث عن الوسائل العلمية التي تُحقق للإخوان غايتهم، ومن أجل ذلك تكوَّنت عدة لجان؛ لجنة دستورية لبحث الدستور وموافقته الشريعة، ولجنة قانونية للنظر في إعادة الأحكام التشريعية القضائية وموافقتها للشريعة الإسلامية، ولجنة علمية تدعو إلى كتابة الفقه بصورةٍ ميسرةٍ والتي صدر عنها كتاب (فقه السنة)، ولجنة علمية أيضًا للبحث عن أهم الوسائل التي تُحقق للإخوان غايتهم.

ثم كان بعد ذلك المؤتمر السادس الذي تكلَّم فيه الإمام البنا كما هو بين أيديكم عن محورٍ هامٍ نستطيع أن نقول إنه يهم العمل الإسلامي المعاصر، ولعل من أهم الأسباب التي تؤدي إلى ذلك الاضطراب الذي يعاني منه العمل الإسلامي المعاصر تنبَّأ بها الأستاذ الإمام البنا في هذه الرسالة؛ رسالة المؤتمر السادس، ألا وهو إزاحة الغموض عن الغاية والوسيلة.

وكما يحكي الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه (أحداث صنعت التاريخ) أن هذا المؤتمر حدث في ظروفٍ عصيبةٍ خارجية وداخلية؛ أما الخارجية فكانت أحداثًا عالميةً وفيها انفجر مخزن البارود وكان أوج الحرب العالمية الأولى، وهي تجربة كما يروي المؤرخون أنها تجربة كارثية أصابت العالم أجمع.

أما الأحداث الداخلية فكانت بعض الانشقاقات التي حدثت في صفوف الإخوان، وكان أهمها خروج جماعة شباب محمد عن الإخوان المسلمين، وهذه الجماعة كان يرأسها المحامي محمود أبو زيد عثمان في صعيد مصر، وهو الذي ادَّعى أن وسائل الإخوان لا تُحقق الغايات، ودعا إلى الاستعجال والتطرف، وقد كتب مقالاً بعنوان الإسلام (يدعو إلى التطرف)، وادَّعى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى التطرف، والمعروف أن هذه الجماعة دخلت على الإمام البنا- كما سمعتُ من الأستاذ حامد أبو النصر يحكي لنا هذا التاريخ-؛ حيث دخلوا على الإمام البنا في المركز العام في مكتبه وأشاروا إليه بالسلاح على أن يترك الجماعة وطالبه أن يستقيل.. لكن الإمام رفض وفتح لهم صدره وقال: "خيرًا لي أنْ تستقرَّ هذه الرصاصات في صدري لكني لا يمكن أن أتخلى عن الأسلوب الذي أُومن به والطريق الوحيد الذي يؤدي إلى المقصود؛ عظيم الأجر وجزيل المثوبة من الله عز وجل"، وفتح لهم خزنة المركز العام وقال: "هذا المال خذوه وانتفعوا به"، ودعا لهم بالتوفيق.


وكانت هذه أحداث الانفصال، ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث والظروف العصيبة التي كُتبت فيها الرسالة (رسالة المؤتمر السادس) أظهرت موقع جماعة الإخوان ومكانتها في المجتمع المصري بصورةٍ فريدةٍ؛ مما لفت الأنظار إليها وإلى خطواتها أيضًا، كما يقول الأستاذ محمود عبد الحليم: "إن الأستاذ البنا قبل أي مؤتمر كان يُكوِّن فريقًا من الإخوة يقرأ عليه العناصر ومضمون الرسالة التي كان يتكلم فيها، أما بالنسبة لرسالة المؤتمر السادس فكوَّن عدة لجان وأخذ وقتًا طويلاً جدًّا في الإعداد لهذه الورقة؛ لأنها ناقشت المجتمع المصري من الداخل فكشفت الواقع المصري في هذه الفترة في أمرين هامين جدًّا، وهما الانهيار الداخلي من ناحية؛ حيث انتشار التحلل والإباحية وصور الجهل والفقر والمرض والتخلف والتشرذم، ومن ناحيةٍ أخرى الانقسام والفرقة في المجتمع المصري، وهو ما يهدد بانهيار كيان الأمة من داخلها، كما ذكر في بعض كلماته.


والجانب الآخر ما يهدد كيانها الخارجي من غلبةِ الأجنبي على خيرات البلاد، وكان لأول مرة يعرف الناس وكثيرٌ من المصريين حتى الوزراء ومَن هم في سدة الحكم هذه الإحصائيات التي قدَّمها الإمام البنا عن وجود عددٍ ضخم جدًّا من الشركات الأجنبية، التي استولت على خيراتِ البلاد، بالأرقام والإحصائيات والتاريخ، وكان صعبًا جدًّا في ذلك الوقت أن يُقدَّم بهذه الدقة؛ مما لفت النظر إلى خطورةِ ما يعرفه الإخوان عن الواقع المصري من داخله الذي لخصه الإمام عندما قال: "الخطر الذي يهدد كيانها الداخلي من فقرٍ وانقسامٍ والفرقة وفي أخطر صوره من الاستعمار والاحتلال".


مما لا شك أن الرسالة لفتت النظر إلى خطورة ما يعرفه الإخوان، وهذا الكم الهائل من المعلومات الدقيقة عن الواقع المصري في ذلك الوقت؛ وما يهدد كيانه الداخلي والخارجي على حدٍّ سواء؛ ولذلك تسارعت الأحداث فيما بعد والتي أدَّت إلى المحن التي واجهتها جماعة الإخوان وانتهت باستشهاد الإمام البنا رحمه الله.

الغايات والوسائل
لعل أهم شيء توضحه الرسالة وتتحدث عنه هو إزاحة الغموض عن الغاية والوسيلة، كما يُقال في بعض الأقوال المأثورة "لا تذكر الغاية ولكن اذكر الوسيلة".. قل لي ما هي الوسيلة وأنا أحكم على الغاية؛ لأن الغايات دائمًا حسنة رفيعة، والذي يؤكد هذه الرفعة هي الوسيلة، كما قال الإمام البنا "الغاية أصل والأعمال فروعٌ لها"، وهناك قول مؤثر "اذكر لي الوسيلة أعرف لك غايتك".


ولذلك أراد الأستاذ الإمام البنا في هذه الرسالة أن يعالج الجانبين معًا (الغايات والوسائل)؛ ليزيح الغموض عن الجماعة، مما أشار به بقول "نحن قوم غامضون ولا يزال بعد مرور 19 عامًا بين النصح والدعوة والإرشاد لا يزال أناسٌ كثيرون لا يعرفون غاية الإخوان"؛ لذلك ظهرت جماعة شباب محمد التي كان كل احتجاجها على الدعوة أنها غامضة ولا تنادي إلى الهدى، ويجب استخدام القوة والتطرف وأن السنة النبوية سنة تطرف.. فجاء الإمام البنا في هذه الرسالة ليزيل الغموض عن الجميع.. وتكلَّم عن ما يميز الدعوات الصالحة التي هي غير سواها من دعوات السوء التي قال عنها "رائدة السوء عالية البوق".


وإنْ دلَّت هذه الرسالةُ على شيء فإنما تدل على وفرةٍ أخلاقية تحكم هذه الغاية؛ فقد تكلَّم عن التجرد والتضحية والإخلاص والجهاد والعمل والإخوة والثبات، والفهم على أساس كل دعوة صالحة؛ لأنه بغير الفهم ستضطرب صور السير، وهذه من الأمور الغامضة على كثيرٍ من الناس؛ لأن البعض أحيانًا يبرر بالإخلاص كل ما يقوم به من عمل، فالفهم قبل الإخلاص، والعمل ثمرة الفهم والإخلاص؛ ولذلك قدَّم الإمام البنا الفهم على الإخلاص والعمل.

البساطة والواقعية
وأراد الإمام البنا أن يُوصِّل الأمور بصيغةٍ بسيطةٍ واضحةٍ، كما يُقال البساطة في أي دعوة، وكان هذا أسلوب الإمام كما يقال "تستطيع أن توصل أي شيء بالبساطة"، وإن دعوة الإخوان ارتطبت بالبساطة التي تمنحها المهابةَ، وقد لخَّص الإمام الدعوة في خمس كلمات "البساطة، التلاوة، الصلاة، الجندية، الخلق".


فأي دعوة تريد النجاح يجب أن تتسم بأمرين (البساطة والواقعية)، وهذه طبيعة الإسلام، والبساطة مرتبطة بحقائق الحياة التي لا يستطيع أحد أن يقاومها أو يجحدها، وإذا تكلمنا عن الإسلام، فالبساطة هي التي منحته المهابة وحقائقه الواقعية هي التي أعطته المهابة، كما جاء في القران ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)﴾ (الغاشية)، وهذا ما يميز دعوة الإخوان، فلا يستطيع أحد أن يجحدها.


وارتبطت أيضًا بالواقعية التي منحتها التطور؛ لأنها كانت مرتبطةً باللحظة التاريخية الراهنة، والمثل الذي جاء على ذلك حادثة الرق فعندما جاء الإسلام ينهى عن الرق لم ينههِ بصورةٍ صارمةٍ؛ بل بالتدرج في ذلك معتمد التغيير، ومن أجل هذا المناخ مناخ الحرية لينهى عن الرق فقد اعتمد الإسلام التغيير، ولكن لم يتم فعلاً الانتهاء من قضية الرق إلا بعد 13 قرنًا من نزول القران الكريم ليخاطب الواقع الذي كان موجودًا ويُكرِّس معاني الرق فكرةً.. إنها عملية التغيير الهائل الاجتماعي الذي يحدث في العالم، والقرآن يضع الجذور الأولى للتحرير، ويأتي ذلك بعد قرونٍ، بعد الحروب التي تمَّت في أمريكا من أجل تحرير العبيد، وأُعلن الإعلانُ الأخيرُ في أوروبا بتحرير العبيد وحقوق الإنسان.


والواقعية تعني التطور؛ لأنك مرتبط باللحظة التاريخية، ولأمرٍ ما قدَّم أيضًا الإمام رسالةً سنة 40 بعد عام من رسالة المؤتمر السادس مباشرةً بعنوان: (دعوتنا في طورٍ جديد)؛ لأن ارتباطه باللحظات الراهنة دخلت الدعوة في طورٍ جديد جعلت الناس تسأل عن الوسائل التي تتحقق بها الغايات والتطبيق لهذه الغايات فكانت هذه هي المحور الأساسي التي قدمت إليه الرسالة سنه40.


فكل دعوه ناجحة تتسم بالبساطة التي تمنحها المهابة، والواقعية التي تمنحها التطور، والموافقة على التغيير؛ أي اعتماد التغيير ثم الموافقة ضمنيًّا بعد ذلك عليه.


ويُوضِّح الإمام البنا- رحمه الله- الغاية التي نريدها في هذه الرسالة حتى يكون الأمر واضحًا؛ لأن وضوح الغاية يؤدي إلى قابلية الاستمرار؛ حيث إن غموض الغاية يؤدي إلى تبعثر الجهود وتوزع القوى والتصدي إلى تزعزع القيم إذًا تسقط الدعوة، وإنه إذا غمضت الغاية لا تُعرف الوسائل، فقابلية الاستمرار في الدعوات المجاهدة المستبسلة كدعوتنا التي تكون في تلك الظروف العصيبة تكون الغاية منها إحداث التغيير الشامل، فإنه ليس أمرًا محدودًا بل غاية بعيدة كما ذكر الإمام البنا- رحمه الله- أنها تنظيف رواسب قرون عدة سار فيها الفساد في مجموع المسلمين.


فعندما تتضح الغاية يسهل السير وتكون فيها قابلية للاستمرار؛ فلذلك حرص الإمام البنا على وضوح الغاية من دعوتنا وتقرير العلم لعمل الهداية، فقدْر فهمه للضلالة يكون فهمه لعمل الهداية المعروف بالمشروع الإسلامي لمعالجةِ التحلل والإباحية والتحرر، ومن ناحيةٍ أخرى وقف نهب الثروات من الأجانب.


فذكر الإمام رحمه الله الغاية: "نحن نريد حكومةً مسلمةً تؤيدها أمةٌ مسلمةٌ، وتنظم حياتها شريعةٌ مسلمةٌ"؛ أي نظام مسلم، ثم ذكر في حديثٍ آخر نتائج النظام الذي كان موجودًا، وهو انتشار الجهل الذي كان متفشيًا في ذلك الوقت حتى القلائل المتعلمين لم تستكمل المؤهلات الناجحة في حياتها، فالجهل يؤدي إلى تقدم الظلم، بالإضافةِ إلى أن الأمة الجاهلة هي التي قادت الاستعمار إلى هنا، فجهلها يجعلها تتنازل عن حقها في تقريرِ مصيرها بفساد الحاكم.. فكان نظر الإمام بعيدًا، فكما ذكر ابن خلدون في مقدمة معاني الظلم "أن الحاكم إذا كان قاهرًا لشعبه باطشًا بالعقوباتِ شغله الظلم والخوف وراوغ من حوله بالمكر والخديعة والكذب؛ ففسدت البصائر والأخلاق، وخذلته في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النياتِ فتفسد الدولة"؛ مما أشار إليه من القهر من الخارج في صورةِ الاستعمار أو من الداخل من الحاكم الظالم.


وهذا ما جعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول عندما جاء رجل يسأله وهو يضع رجليه في الغرس يا رسول الله: "أي الجهاد أفضل" قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كلمة حق عند سلطان جائر".


وهذا ما نراه من انعكاس الظلم على الشعوب والجماعات حيث يؤدي إلى فساد البصائر والأخلاق.


كما يقول أيضًا الإمام البنا: كيف يشعر بمعنى العزة والكرامة من عرَّى جسده وجاع بطنه، إنما يشعر بالعاطفة القومية من شبع بطنه واستغنى بدينه، ليشعر الإنسان بعزته وكرامته وانتمائه، فمَن لا يجد القوت في بلده لا يشعر بانتمائه.


علل سقوط الأمم
وتكلَّم الإمام البنا في علل سقوط الأمم كيف أنها تتداعى أمام عدوها، وهو الأجنبي الغاصب وتتنازل عن حقها في تقرير مصيرها.. فذكر الداء والدواء، كما دلل عليه في المؤتمر الخامس والذي تمَّ في المؤتمر السادس، وقال: "إن داء الأمة ضعف الأخلاق وفقدان المثل العليا وإيثار المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة والجبن عند مواجهة الحقائق والهروب من التبعات والعلاج ثم الفرقة- قاتلها الله- التي هي أصل الداء".


فشخَّص العلل التي أدَّت إلى تداعي الأمم، فالأمم تدخل التاريخ إذا كانت كريمةَ الأخلاق وإن كانت ندرة في الأشياء، وعندما تنزل من التاريخ تكون وفرة في الأشياء وندرة في الأخلاق؛ ويتضح ذلك من حديث أم عطية ومذكورٌ في السنن أنها عندما أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- النساء أن يخرجن لصلاةِ العيد فقالت أم عطية إن إحدانا لا تجد لها جلبابًا- أي ندرة في الأشياء- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "فلتقرضها أختها جلبابًا"- أي وفرة في الأخلاق-، وهذا ما جعل أمة الإسلام تدخل التاريخ، وهذا توضيح الإمام البنا في أصل الداء فعندما تضيع الأخلاق تضيع الأمة، والرجوع إلى المثل العليا وغلبة المصلحة العامة عن المصلحة الخاصة وعدم الهروب من تبعات العلاج وعدم الجبن من مواجهة الحقائق أي عكس الفساد تزكية النفوس والأخلاق، كما فعل من قبل آخرون مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفى كامل وعبد العزيز الجاويش عندما صاروا بالأمة إلى التعليم وتهذيب النفوس، فلو صارت مصر في طريقهم لأصبحت في التاريخ ووصلت إلى ذروتها، فمن أعمالهم إنشاء وزارة المعارف والذي أنشأها مصطفى كامل، وإنشاء المدارس الليلية للتهذيب؛ حيث أنشأها عبد العزيز جاويش، وعبد الرحمن الرافعي عندما تحدَّث عن حقوق الأمة، فكان الإمام يعلم جيدًا أن الخروج من هذا السقوط هو التهذيب الأخلاقي.



وفي وصفِ الجائر لم يتكلم فقط عن الحاكم كما يفعل آخرون، ولكن قال الإمام- رحمه الله- في وصف المعتدي الغاصب هو حاكم عني بنفسه أكثر من عنايته بقومه ووطنه، ومحكوم رضي بالذل وغفل عن الواجب وخُدع بالباطل وفقد الإيمان وفقد الجماعة، غير ذلك من التشرذم والتفرق والفرقة والظلم.


وذلك الشعور بروحِ التجمع والجماعة، قال: إن من طبيعة دعوتنا هي رُوح التجمع والشعور بالآخرين؛ أي أن تشعر بمسئولتك تجاه قومك ومجتمعك؛ أي معرفة مسئوليته الفردية، فقد أشار القرآن إلى أنَّ الفرد المخطئ تجاه نفسه ومذنب يعاقب في النهاية، أما المخطئ تجاه الآخرين يكون عقابه عاجلاً في الدنيا، فهذا حكم الله فينا، وعندما سُئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "أنهلك وفينا الصالحون" فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"نعم، إذا كثُر الخبث": ، فيسرع المنقذون بالأعمال فليصعد المسيء في المجتمع الصالح.


فإذا أردنا أن ندخل البداية الحقيقية للنهوض فلا بد من وفرةِ الأخلاق وإن صاحبها ندرة الأشياء، وبذلك أوضح الإمام البنا الغموض عن الغاية حتى تتضح للجميع، وكل ما يريده من الحكومة المسلمة تؤيدها أمة مسلمة تنظم حياتها شريعة مسلمة، وبذلك عندما اتضحت الغاية نستطيع أن نتقبل النتائج بارتياحٍ وجلدٍ.


صلاح العالم
وأذكر قصة حدثت معي في السجن الحربي؛ حيث كان معي أخ لبَّان اسمه إسماعيل عبد العال فقير غلبان، من قرية بسيطة في دمياط تعلمتُ منه أشياء كثيرة مع أنني كنتُ أرى في نفسي أني على قدرٍ كبيرٍ فكنت تعلمت الكثير وقرأت 40 كتابًا كلها من كتب الإمام ورسائله وكُتب الأستاذ محمد قطب منها "نحن مسلمون"، و"شبهات حول الرسول".. ومع ذلك تعلمتُ من هذا الأخ ما يجعلني أحمل التبعات.. فسألت الأخ إسماعيل: "تفتكر هل الأحكام ستكون قاسية؟"- قلت له ذلك لأطمئن على نفسي- فردَّ عليَّ الأخ وقال: "اللي دفع قرش زي اللي ضرب قنبلة"، فكان هذا تقييمه وإحساسه بما قام به، وكان الأخ إسماعيل في ذلك الوقت نقيب أسرة في الفلاحين، ولكن كان هذا إحساسه بنظرةِ الخصوم إليه فلا تُهوِّن على نفسك فقد قال: "القضية التي دخلت فيها عملت أو لم أعمل فهي طريقي فإنهم إذا حكموا علي بسنة أو اثنتين لا أستطيع إن أُري الناس وجهي.. فهل نحن سرقنا "معزة"، إنما نُريد صلاح العالم".. هذا هو مثقف الفكر.


الرجل صدق الله فصدقه وحُكم عليه بـ25 سنةً مع أنه لم يفعل شيئًا فإنه نقيب أسرة فلاحة صغيرة زملاء في الطريق، ولكن كان موقفه في المحكمة وإحساسه بالمسئولية ومكانته حول رسالته والدور المهيئ نفسه عليه، هذه هي القمة.. هذا ما جعل خصومه يحكمون عليه.فعندما تتداعى أمة تتداعى عن الحقائقِ الواقعية فتفقد حقَّها في تغيير مصيرها، وتعجب بالخصم جدًّا لدرجة أنها تُؤيده وتُقلده في كل شيء صدر عنه خطأً كان أو صوابًا، فتوجد قله قليلة تُمثِّل المثل العليا لتنهض بالأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء وتدعو للعدل والإحسان وصوت ضميرها يُعلن أنه (لا أفعل الشر)، مثل لذلك الصحابي بلال في رسالته لقريش "أحد أحد" أي مهما أكرهتموني لن أشرك عن عبادة ربي أبدًا، فعندما تُدرك الدور الذي ينتظرها لتقوم به والمكانة التي رُشحت لها صوت ضميرها ينادي أن لن أجعلك تفعل الشر أبدًا ما حييت، فهي تنشد صلاح العالم.


فالخصم يحاول تغييبك بقدر ما يستطيع عن المكانة والعمل الذي تريد أن تقوم به والدور الذي ينتظرك والفاعلية التي رُشحت لها فقد هيئوك لأمر لو عملت له تنجو بنفسك وأعمالك، فالبساطة والواقعية تعطي الأمة المهابة والتكيف في الأزمات التي تواجهها.


هذه المعاني التي أراد الإمام البنا أن يزيح الغموض عن غايته.. "نحن نريد أن نستبدل بذلك النظام الاجتماعي الفاسد بنظامٍ خيرًا منه تحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وشعبها، يؤيدها شعب متحد الكلمة قوي الإيمان متوقد العزيمة".


وهكذا ببساطة يشرح الإمام الغاية التي يسعى إليها، وكما قال إن قوة التنفيذ جزءٌ من تعاليم الإسلام التي عبَّر عنها في رسالة (بين الأمس واليوم): "وإذا قيل لكم إلامَ تدعون..؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه".


ووضح صورة الواقع الأليم فقال إنه "بقي النظام وزال الإمام- لأن النظام يحتاج إلى إمام يحميه-، واستمرَّ الدين وضاعت الدولة وازدهر التشريع وذوي التنفيذ.. أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان؟!".


وأشار الإمام البنا إلى أن قوة الأمة في مواجهة الظلم يجب أن تستبدل نظامًا بنظام وحكومةً بحكومة، فالحكومة المسلمة تؤيدها أمة مسلمة وحكومة مسلمة حازمة تهب نفسها لوطنها وقومها يؤيدها شعبٌ متوقدُ العزيمة قوي الإيمان متحد الكلمة.


وذلك لإزالة الغموض عن الغاية لكل مَن يعمل في حقل العمل الإسلامي، فالغاية حسنة رفيعة لكن الوسائل هي التي تؤكد ذلك فأراد أن يزيح الغموض عن الغاية حتى تتحقق قضية الاستمرار وتحمل التبعات وعذابات الطريق ونتائجه.


وعندما تحدَّث الإمام البنا عن باقي الجماعات الموجودة التي تعمل في الساحة قال ليس بيننا وبينهم أي اختلاف أو لا يُفرِّق بيننا وبينهم أي اختلاف فقهي أو خلاف مذهبي، فكلنا يدعو إلى الإصلاح وعدم التشرذم والتفرق، ثم بدأ يتكلم بعد ذلك عن وسيلة تحقيق هذه الغاية، وكما ذكرنا أنه قال: "ويوجد بعض الوسائل لا نفصح عنها الآن ولكن في وقتها"، فالواقعية والارتباط باللحظة التاريخية الراهنة تعطي كل وسيلة حقَّها في التطور، فكان الإمام البنا حريصًا أن لا يحدث خطأ ما ندفع له الثمن باهظًا؛ لأن الحقائق المتفق عليها أن الإسلام له ثقله التاريخي والاجتماعي في منطقتنا هذه، ولا أحد يستطيع أن يُنكر ذلك، والكل يحتمي فيه سواء الدعاة أو الخصوم أو الرجل العادي وهو رجل الشعب؛ وبالتالي أي منا وكل مَن يريد أن يعمل للإسلام لا يستطيع أن ينسلخ من ذلك التاريخ، وتصبح التجربة محسوبة عليه، وخاصةً ليس هناك أحد يبدأ من الصفر.


وكما قال الإمام إنه استفاد من تجارب كلِّ مَن سبقه بالعمل للإصلاح من السنوسية بالمغرب، والوهابية في جزيرة العرب، والدهلوية في الهند، والمهدية في السودان.. إلخ.


وحركات الإصلاح التي سبقت الجماعة في عالمنا الإسلامي من حركات التجديد محسوبة عليك، فأي تجربة سابقة أنت محاسب عليها وتكرار الخطأ يعني مقتلاً سريعًا، فلا تستطيع أن تنسلخ منها، والتعصب الكبير الذي يواجهه العمل الإسلامي المعاصر الآن وعدم القدرة على تحقيق النتائج وابتعاده، وبينه وبين العواقب والنتائج بون شاسع؛ وذلك كله يرجع إلى أن الجميع يعمل محتميًا بالإسلام، فبالنسبة للدعاة يعملون للإسلام وحقوقه، والخصوم يعملون للإسلام، فالخصوم من سلطاتٍ وأنظمة يعملون للإسلام ويحاربون كل مَن يخرج عنه- من وجهة نظرهم-؛ لذلك يصف الخصومُ العاملين للدعوةِ بالخوارج، وهذه الكلمة موجودة من أعوام، ففي الستينيات كان يسمون الإخوان الذين قُبض عليهم بالأزالقة الخارجين من وجهتهم هُم؛ لأنهم خارجون عن غايتهم ووسائلهم في العمل للإسلام.

الجمعة، 16 مايو 2008

الإسراء والمعراج.. عبر وعظات

إن تذكرنا لمواقف ومناسبات من سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، إنما يكون للعبرة والعظة والتأسي، لذلك ينبغي علينا أن نحاول جاهدين أن ننزل سيرته صلى الله عليه وسلم المنزلة المستحقة والواجبة؛ ولنستدعي أحداثها دائمًا أو كلما دعت الضرورة أو حلت مناسبة- على أقل تقدير- لنقف على أفعاله- صلى الله عليه وسلم- وتصرفاته لتكون لنا نبراسًا يضيء الطريق ويهدي الضال ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب).

فمن المعلوم أن من المعجزات التي أعطاها الله تعالى لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- الإسراء وهو انتقاله من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ثم المعراج وهو عروجه إلى الملأ الأعلى ووصوله إلى الجنة، والمقصود من هذه الرحلة المعجزة تكريم النبي وإطلاعه على عجائب خلقه.

فحادثة الإسراء والمعراج من أهم الأحداث التي مرت بالإسلام منذ نشأته، وذلك لكونه حادثًا فريدًا يصعب على العقل البشري المجرد تصديقه.. وإذا لم يكتنف هذا العقل إيمان عميق لصعب عليه استيعاب هذا الحدث؛ لذا نجد أن من الصحابة من فتنوا في هذا الحادث، وفي المقابل نجد أن من تشبع بالايمان وعاشه وعايشه قد تقبل الأمر ببساطة كبيرة كما فعل سيدنا- الصديق- أبو بكر.

وسنحاول هنا أن نتناول بعض العبر والعظات والتأملات لهذا الحادث الفريد للذكرى عسى الله أن ينفعنا بها وأن نقتدي بالمصطفى- صلى الله عليه وسلم- وصحابته ولنأخذ من هذا الحادث الدروس التي تعيننا على طريق الدعوة الطويل الشاق.

1) مكانة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: فهذا الحادث قد أوضح وبصورة واضحة جلية مكانة النبي- صلى الله عليه وسلم- ورقيه لمكانة لم يرقَ لها أحد بهذه المعجزة العالية، ورقى مرقى لم ترقَ إليه الرسل والأنبياء جميعًا، ونال منزلةً لن يحظى بمثلها أحد من أهل السموات والأرض. فهو خاتم وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

وكما قال سبحانه وتعالى تكريمًا لنبيه المصطفى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فالعبودية لله هي أرقى درجات الكمال الإنساني، قال العلماء: لو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- اسم أشرف منه لسماه تلك الحالة، وقال القشيري: لمَّا رفعه الله إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعًا للأمة.

كما أنَّ في إمامته- صلى الله عليه وسلم- للأنبياء أكبر دليلٍ على مكانته الرفيعة وعلى كونه خاتم الرسل والأنبياء وعلى دور الإسلام وأمته في الشهادة على الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.

وبنظرةٍ أخرى ودرس آخر في أثر هذه المكانة السامقة والمعجزة الفريدة عليه، هل تغيَّر من خُلقه شيء؟؟ من تواضعه.. من أدبه.. من حسن معاشرته للناس.. من تفانيه في الوفاء لرسالته.. من رضائه بحاله التي كان عليها قبل الإسراء الرائع والمعراج الفريد، هل تعالى على أحدٍ من المسلمين؟؟ هل اختصَّ نفسه بشيء لم يحط به أحدًا من المسلمين؟؟ هل خاشن مَن يدعوهم إلى الإسلام؟؟. هل ركن إلى هذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة السامقة ولم يبذل ويضحي من أجل رسالته ودعوته؟

أعتقد أن أجابة هذه الأسئلة وغيرها واضحة جلية لكل ذي لب، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم برغم هذه المنزلة وتلك المكانة في قمةِ التواضع واللين في أيدي الجميع والأخذ بالأسباب وأعطى من نفسه وأهله أروع الأمثلة في البذل والتضحية.

2) الصبر والثبات: فقد أعطى- صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في صبره وثباته على الإيذاء من كفار قريش وجهالتهم عليه وما تضجر، بل صبر واحتسب.. كما صبر على فراق الأحبة الداعمين له أبو طالب وخديجة.

كما أن هذا الحادث الفريد كان اختبارًا لصبر وثبات وصدق المؤمنين، وتمحيصًا لصفِّهم وامتحانًا ليقينهم، ولثبوت العقيدة في وجدانهم، فالحدَث فوق مستوى العقول البشرية، يحتاج إلى مؤمن صادق الإيمان، لا يُزعزع من يقينه أشد الأحداث ولا أخطرها.. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.

3) تنقية الصف: كما قلنا من قبل فإن الحدَث فوق مستوى العقول البشرية؛ لذلك نجد أن الإسراء والمعراج امتحانًا للمسلمين وتنقيةً للصف؛ استعدادًا لما هو آت.. فقد فُتِن بعض الذي أسلموا وارتدَّ مَن ارتد!

يقول الإمام "ابن كثير" فيما رواه عن "قتادة": "انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مكةَ فأصبح يخبر قريشًا بذلك، فذكر أنه كذبَه أكثرُ الناس، وارتدَّت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصدِّيق إلى التصديق، وذكر أن الصدّيق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال إنّي لأصدقه في خبر السماء بُكرةً وعشيًا، أفلا أصدقه في بيت المقدس، فيومئذٍ سُمي "أبو بكر الصديق".

فنجد أن الإسراء والمعراج حدث قُبَيلَ الهجرة إلى المدينة، وترك الديار والأهل والوطن؛ وتكوين دولة الإسلام؛ ليكون اختبارًا للمؤمنين وتدريبًا لهم على حسن الاستجابة لله عز وجل، فهي مرحلة جديدة، كلها جهاد وكفاح في سبيل الله، فهي مرحلة تحتاج إيمان ثابت إيمان لا تعبث به الدنيا ولا تزلزله الجبال إيمان قد استقام على حقيقة منهج الله عز وجل.

4) معية الله: فالله عز وجل أوضح لنبيه- صلى الله عليه وسلم- أنه معه وناصره ومعينه في أحلك الظروف وأنه لن يخزيه أبدًا، ففي ذات الرحلة وكنهها عناية ربانية عظيمة.. ومثال آخر على معية الله لنبيه حين طلبت قريش من النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف لها بيت المقدس مع ملاحظة أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قد جاءه ليلاً ولم يكن قد رآه من قبل يقول عليه الصلاة والسلام: "فأصابني كربٌ لم أصب بمثله قط"، أي أن الأمر سيفضح أي النبي عليه الصلاة والسلام سوف يتهم بالكذب ولكن حاشا لله أن يترك نبيه ومصطفاه؛ يقول عليه الصلاة والسلام: فجلَّى الله لي بيت المقدس فصرت أنظر إليه وأصفه لهم باباً بابًا وموضعًا موضعًا.. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾.

5) ثقة الجندي بقائده (موقف سيدنا أبوبكر): فقد كانت ثقة سيدنا أبو بكر في قائده ورسوله كبيرة وعظيمة بدرجةٍ لا تهزها أو تنال منها أي أحداث مهما عظمت، ففي هذا الموقف الذي ثبت فيه "أبوبكر" عندما كذَّب أهل مكة ما حدَّث به الرسول عن الإسراء لأعظم دليلٍ على هذه الثقة.

فقد ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: أرأيت ما يقول صاحبك إنه يقول: إنه أُسري به إلى المسجد الأقصى، ونحن لو أردنا أن نذهب هناك لقطعنا مسيرة كذا وكذا، فما رأيك؟ قال أهو قال ذلك؟ قالوا: قال. قال: "أشهد إن كان قال ذلك فأنا أصدقه، إنا نصدقه في أعظم من ذلك، نصدقه في خبر السماء يأتيه وهو جالس بين ظهرانينا".

ولذلك كان هذا اللقب العظيم لقب الصديق على مَن يستحق، وأصبح في أرض الله لا يعرف بهذا اللقب بعد أنبياء الله إدريس ويوسف عليهما السلام إلا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه.

6) الدعوة أولاً: فهنا درس لكل صاحبِ هَمٍّ لكل صاحب قلب مكلوم ألا يلتفت قلبه إلا إلى الله عز وجل، فقد كان رسول الله- عليه الصلاة والسلام- يحمل هم الدنيا كلها ويحمل أمانة تنوء بها الجبال، ماتت زوجه خديجة التي كان يأوي إليها عند تعبه، مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه كان يبحث عن رجال صُدق يعينونه في تبليغ أمر دعوة الله عز وجل ذهب إلى ثقيف ولكنها ردته ردًّا سيئًا وأغرت به السفهاء فضربوه بالحجارة حتى أدمت قدميه الشريفتين لجأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى حائط وأخذ يناجي رب العزة سبحانه: حتى إنه دعا بدعائه الشهير "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.. إلهي أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تكلني إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل عليَّ غضبك أو أن تحل بي عقوبتك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله".

7) الدعوة إلى الله في كل الظروف: وهذا هو نهج الرسل والأنبياء لانشغالهم بدعوتهم وأنها تعيش في وجدانهم، ففي أشد فترات الحزن والأسي التي تعرَّض لها النبي- صلى الله عليه وسلم- حين ذهب إلى الطائف ليعرض نفسه عليهم، نجده يدعو الغلام إلى الله ويعود بمكسب كبير أن هدى الله به واحدًا.. وهذا يذكرنا بموقف سيدنا يوسف داخل السجن، إنها نفس الروح والعزيمة والإرادة التي يبثها أنبياء الله في الأرض ليقتدي بها الناس جميعًا.

إنها روح الإصرار على تبليغ الرسالة مهما كانت العقبات ومهما كان التسفيه والنيل من شخص ومكانة الداعية.

وفي هذا درس للدعاة إلى الله عز وجل أن يبلغوا أمانة الله تعالى رضي الناس أم غضبوا، فرسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"، وإذا كان أنبياء الله عزَّ وجل يتهمون بالكذب والسحر والجنون فليس في ذلك غرابة بعد ذلك أن يتهم الدعاة إلى الله في واقعنا بالتطرف بالرجعية والتأخر.

8) وحدة رسالة الأنبياء: وأنهم جميعًا يدعون لدينٍ واحدٍ ورسالةٍ واحدةٍ وهي الإسلام، فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل، الأنبياء إخوة ودينهم واحد: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25].

وكان أكبر رمز لذلك صلاته إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى، ولها دلالة أخرى، أنَّ النبوة والرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا رسالة: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: من الآية 40).

9) مكانة الأقصى ودورنا تجاهه: يجب أن يشغل بالنا اليوم أحوال المسجد الأقصى، وكيف نستعيده مرة أخرى، نستعيد ما ضاع منا من أرض فلسطين بمختلف الطرق والوسائل، هذا هو الأمر الحتم والهمُّ الكبير، فهذا هو بدء الطريق، وكل من سار على الدرب وصل، هذه ذكرى من الذكريات كريمة، وآية من آيات الله عظيمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).

فقضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى وجرحهم النازف من القلب ومنذ أكثر من نصف قرن من الزمان، والدليل القاطع على موقف العالم الغربي الظالم والمنحاز ضد قضايا المسلمين، والضارب عرض الحائط بكل المبادئ والقيم والشعارات التي يرفعها من حرية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، ورفض العنصرية، وحق الشعوب في الكفاح المسلح؛ من أجل إزالة الاحتلال عن أراضيها.. كل هذه المبادئ يتنكر لها الغرب، ويقف داعمًا الاحتلال الصهيوني الإرهابي، العنصري الاستيطاني الدموي لأرض فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى، واليوم يكشف الغرب مرةً أخرى عن حقيقة مشاعره نحو الإسلام والمسلمين ولعل ما يحدث في فلسطين ولبنان والعراق وافغانستان لخير دليل على ذلك.

10) دورنا تجاه المقدسات: لقد تأمل العلماء الربط في إسراء النبي- صلى الله عليه وسلم- من مكة البيت الحرام إلى بيت المقدس فذكروا أن المسجد الحرام بمكة المكرمة هو رمز للإسلام لدين الله عز وجل وبيت المقدس هو رمز لحال المسلمين.

فما يجري في تلك الأرض هي علامة صحوة المسلمين أو غفلتهم فالأقصى وأهله في رباط إلى يوم الدين، وبمقدار تفاعلنا وانشغالنا به يكون مقدار تقربنا إلى الله عز وجل أو بعدنا عنه. فالمسجد الأقصى لن يتحرر إلا على أيد متوضئة طاهرة كريمة، أما الأيدي التي يحمل أصحابها أفكارًا منحرفةً وعقائد فاسدة مثل هذه الأيدي لا يُبارك الله فيها وحاشا لله أن يكتب لها النصر والتأييد مصداقًا لقول النبي- عليه الصلاة والسلام-: "لتقاتلن اليهود فيختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله".

11) الالتجاء إلى الله وقت الشدة: فها هو المصطفى- صلى الله عليه وسلم- يبرأ من حوله وقوته إلى حول الله قوته، وهذا دأب الأنبياء والصالحين والدعاة إذا ادلهمت بهم الخطوب أن يلجأوا إلى الله دون سواه ويطلبوا العون والمدد منه دون غيره. ويأتي حادث الإسراء والمعراج إيناسًا للمصطفى عليه الصلاة والسلام وترسيخًا لهذا المعنى في النفوس ليلجأ الدعاة إلى ربهم وقت الشدة.. فإذا أخلصوا توجههم وأخذوا من الأسباب المعينة- ماديةً ومعنويةً- فسيروا من آيات الله ما تقر به أعينهم.

12) البعد عن المعاصي: خارقة الإسراء والمعراج تضمنت فيما تضمنت مشاهد لألوان من الناس سيعذبون يوم القيامة، بسبب معاصٍ خطيرةٍ عكفوا عليها في دنياهم: من ذلك الرِّبا، والفواحش، إلى آخر ما هنالك.

وعاد المصطفى- صلَّى الله عليه وسلَّم- ينبئُ أصحابه والأمة كلها بهذا الذي رآه من صور مختلفة للعذاب الذي سيناله مقترفو هذه الآثام يوم القيامة، العاكفون على كثير من الموبقات التي حذَّر الله عزَّ وجلَّ منها، وفي هذا درس لنا للابتعاد عن هذه الموبقات. ووجب علينا أن نسأل أنفسنا في هذه المناسبة أين نحن من الوقوف في وجه الفواحش؟ أين نحن من الوقوف في وجه الطريق إلى هذه الفواحش؟ أين نحن من استثارة العوامل التي تدعو إلى هذه الفواحش؟ وما دورنا لمقاومة هذه الفواحش في نفوسنا ومن ثم في مجتمعاتنا.

إن ذكرى الإسراء والمعراج لها دلالاتها الاعتقادية والسلوكية والأخلاقية، والاحتفال بهذه الذكرى إنما يعني الالتزام بهذه المعتقدات، ومن ثم الانضباط الصادق بالسلوكيات المنبثقة عنه، وهكذا يكون صدق الاحتفال والاحتفاء بذكرى الإسراء والمعراج.

إننا لن نستطيع حصر الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج في مقال أو عدة مقالات ولكنها إطلالة سريعة نُعذر بها إلى الله سبحانه وتعالى لنستفيد منها ونقدمها للأمة ودعاتها وشبابها ليقتدوا برسولهم- صلى الله عليه وسلم- في حياتهم العملية، ويتخذوا من الاحتفال ببعض المناسبات والإحداث الكبرى التي حدثت في سيرته نقطة انطلاق للتغير الإيجابي في حياتهم ولتذكر الأحداث واستخلاص العبر والدروس المستفادة منها لتضيء لنا الطريق.ونختم بعرض إجمالي لما رآه المصطفي صلى الله عليه وسلم في إسرائه ومعراجه لنتدارسها ونعيها ونتسخلص منها العبر والعظات.

من عجائب ما رأى الرسول
1. الدنيا : رآها بصورة عجوز (وذلك علامة على أنها تفتن المتعلقين بها وهي ليست على شيء)
2. إبليس: رآه متنحيًا عن الطريق.
3. قبر ماشطة بنت فرعون وشمَّ منه رائحة طيبة.
4. المجاهدون في سبيل الله: رآهم بصورة قوم يزرعون ويحصدون في يومين.
5. خطباء الفتنة: رآهم بصورة أناس تُقْرَضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار. (وهم الذين يخطبون بين الناس بالفتنة والكذب والغش).
6. الذي يتكلم بالكلمة الفاسدة: رآه بصورة ثور يخرج من منفذٍ ضيقٍ ثم يريد أن يعود فلا يستطيع.
7. الذين لا يؤدّون الزكاة : رآهم بصورة أناس يَسْرَحون كالأنعام على عوراتهم رقاع.
8. تاركو الصلاة: رأى قوماً ترضخ رءوسهم ثم تعود كما كانت، فقال جبريل: هؤلاء الذين تثاقلت رءوسهم عن تأديةِ الصلاة.
9. الزناة: رآهم بصورة أناس يتنافسون على اللحم المنتن ويتركون الطيب.
10. شاربو الخمر: رآهم بصورة أناس يشربون من الصديد.
11. الذين يمشون بالغيبة: رآهم بصورة قوم يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية.
12 - مالك خازن النار.
13 - البيت المعمور: وهو بيت مشرف في السماء السابعة وهو لأهل السماء كالكعبة لأهل الأرض، كل يوم يدخُلُهُ سبعون ألف ملكٍ يصلون فيه ثم يخرجون ولا يعودون أبدًا.
14- سدرة المنتهى: وهي شجرة عظيمة بها من الحسن ما لا يصفه أحد من خلق الله، يغشاها فَراشٌ من ذهب، وأصلها في السماء السادسة وتصل إلى السابعة، ورءاها رسول الله صلى اله عليه وسلم في السماء السابعة.
15- الجنة: وهي فوق السموات السبع فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر مما أعدّه الله للمسلمين الأتقياء خاصة، ولغيرهم ممن يدخل الجنة نعيم يشتركون فيه معهم.
16-العرش: وهو أعظم المخلوقات، وحوله ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، وله قوائم كقوائم السرير يحمله أربعة من أعظم الملائكة، ويوم القيامة يكونون ثمانية، والعرش هو سقف الجنة وهو مكان مشرف عند الله قال الأمام علي كرم الله وجه: إن الله خلق العرش إظهار لقدرته ولم يتخذه مكان لذاته.
17- وصوله- صلى الله عليه وسلم- إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام: انفرد رسول الله عن جبريل بعد سدرة المنتهى حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها من اللوح المحفوظ .
18- سماعه صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى الذاتي الأزلي الأبدي الذي لا يشبه كلام البشر.
19- رؤيته- صلى الله عليه وسلم- لله عزّ وجلّ بفؤاده لا بعينه: مما أكرم الله به نبيه في المعراج أن أزال عن قلبه الحجاب المعنوي،فرأى الله بفؤاده، أي جعل الله له قوة الرؤية في قلبه لا بعينه؛ لأن الله لا يُرى بالعين الفانية في الدنيا، فقد قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا".

رسالة إلى الإمام البنا في ذكرى استشهاده


بقلم: وليد شلبي*
ذكرى استشهاد الإمام حسن البنا هذا العام تختلف عن الأعوام السابقة؛ وذلك لكون الدعوة تمرُّ في هذه الأيام بمحنة سبق وتنبَّأ بها من بدايات الدعوة وأرشد إليها أتباعَه؛ ليكون الجميع على بيِّنة ونور من حقيقة الدعوة وطريقها.

وهذا يؤكد أن الإمام الشهيد- رحمه الله- ما زال حاضرًا فينا، بمبادئه وأفكاره، ورجاله الذين ربَّاهم على فهم الإسلام، وهذا ما تؤكده الأحداث التي تمر بها الدعوة الآن، والتي مرَّت بها من عشرات السنين بل ومن آلاف السنين، فهذه المحن هي سنة الدعوات، من لدن آدم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

فإذا كان البنَّا غائبًا عنا بجسده، فهو في قلوبنا وعقولنا، ولا يفارقنا بمبادئه وقيمه، التي أرساها منذ عشرات السنين، ونظل ندعو له آناءَ الليل وأطراف النهار على ما بذل وضحَّى في سبيل نصرة دين الله، متذكرين مبادئه التي أرساها ودلَّنا عليها بفهمه العميق لمبادئ الإسلام وقيمه.

نُشهِد اللهَ أنه لم يخدع ولم يضلل محبيه ومتبعي منهجه، فمنذ عرفنا طريق الدعوة وتتلمذنا على أيدي أساتذتنا ونحن نتعلم وندرس حقيقة الدعوة كما رسمها من فجر الدعوة، رابطًا بينها وبين دعوة الإسلام الأولى، بل وبين دعوات رسل الله جميعًا، ونذكر قوله في رسالة (بين الأمس واليوم): "وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحدَّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبارَ الشبهات وظلمَ الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بكم كل نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومقيّدين بأموالهم ونفوذهم، وستدخلون بذلك ولا شكَّ في دور التجربة والامتحان، فتُسجَنون وتُعتقلون وتُنقلون وتُشرَّدون وتُصادَر مصالحكم وتعطَّل أعمالكم وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)﴾ (العنكبوت)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين.. فهل أنتم مصرُّون على أن تكونوا أنصار الله؟!".

ولعل ما يثار حول الدعوة من شبهات وظلم واعتقال وتحفظ ومصادرة وتقييد للحريات- بل وإعدام- يؤكد ما ذهب إليه من قبل، ولكن نعاهد الله أن نكون أنصار الله أو هكذا نحاول أن نكون بإذن الله، باذلين ما نستطيع لتحقيق هذا المعنى في ذوات نفوسنا وفي واقع حياتنا.

فما استشرفه الإمام الشهيد من عشرات السنين وقع ويقع وسيقع للدعوة والدعاة على مرّ العصور، وقد وطَّن الإخوان أنفسهم على ذلك وتربَّوا عليه وأعدوا أنفسهم لمواجهته، وإن كانوا لا يتمنون لقاء العدو ولا الابتلاء، ولكنها سنة الله للدعوات.


لقد أعد الإخوان أنفسهم بزيادة القرب من الله والاعتماد عليه والالتجاء إليه دون غيره والتمسك بتعاليم الدين الحنيف وبتوثيق روابط الأخوَّة والحب في الله كما عوّدهم ودرّبهم في حياته، وإن كل داعية من أبنائه ماضٍ على الطريق الذي رسمه، مهما كانت العقبات أو التضحيات تقربًا وطاعةً لله؛ مما أدَّى لتكوين أجيال تعمل لإعلاء كلمة الله وترسيخ معنى الحق في إطارٍ من الوُدِّ والإخاء.

وقفات مع غزوة تبوك



بقلم: وليد شلبي*
تعد غزوة تبوك من أهم الغزوات في تاريخ الإسلام على المستوى الخارجي والداخلي للدولة الإسلامية الوليدة. فتم فيها الردع لدولة عظمى في ذلك الوقت، كما تمَّ فيها الكشف عن العناصر المنافقة المثبطة للمؤمنين وكشفهم وفضحهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم الدين. فتم بعدها استقرار الدولة وبسط هيبتها ومكانتها على مختلف المستويات. وكما يقول الشاعر:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العــبر ضل قوم ليس يدرون الخـبر
فنحن حين نتدارس سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إنما يكون للعبرة والاتعاظ والاقتداء ونحاول هنا أن نقف بعض الوقفات مع غزوة تبوك لاستخلاص بعض الدروس المستفادة منها.

لماذا سميت بغزوة العسرة؟
لقد مرت غزوة تبوك والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة بالكثير من الصعاب التي جعلت المؤرخين يطلقون عليها غزوة العسرة ومن هذه الصعوبات، صعوبة التمويل اللازم لتجهيز الجيش، وقد حثَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- المسلمين للتبرع لتجهيز الجيش وحضهم على ذلك، وتسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم، فها هو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله، وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله، وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية، ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهَّز ثلث الجيش وحده، حتى قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حقِّه: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" قالها مرارًا.

كما مثلت شدة الحر والشمس المحرقة وقلة الماء صعوبة أخرى؛ حيث كان يؤدي إلى عسر المسير ومشقة الانتقال، وقد صوَّر القرآن لنا هذا الأمر: ﴿وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾.. كما أن ثمارهم قد أينعت وحان وقت قطافها مما سبب عبأ آخر عليهم.في حين مثلت طول المسافة من المدينة إلى تبوك - والتي تبلغ أكثر من تسعمائة كيلومتر، والرحلة تستغرق شهرًا ذهابًا وإيابًا- صعوبة لا يمكن إغفالها. ولو أضفنا لها شدة بأس العدو، فالعدو هو الروم إحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، فأعدادهم عظيمة، وأسلحتهم كثيرة، وجيوشهم جرارة، لعلمنا مدى الشدة التي عانى منها المسلمون ومدى الصعوبة التي واجهوها.

ولعل الدرس المستفاد هنا أنه ومع هذه العقبات، فقد سارع المسلمون بقيادة النبي- صلى الله عليه وسلم- بالتجهز والخروج والتبرع بأموالهم لسد العجز في التمويل؛ إيمانًا منهم بقدسية الغاية وربانية الهدف.

ويكفي أن نعلم أنه لطول المسافة تحتم أن يكون الجيش من الفرسان وراكبي الإبل، وبعد التجهز خرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقود جيشًا قوامه أكثر من 30 ألفًا من المسلمين ما بين 10 آلاف فارس وبقية الجيش يتعاقب كل ثلاثة على بعير واحد.

خريطة المجتمع المسلم قبل الغزوة
لقد عانى الصف الإسلامي قبل الخروج من إرجاف المنافقين ومحاولتهم الدنيئة تثبيط همة المسلمين وشق صفهم وبذر الوهن في قلوبهم، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في صف ارتبط بخالقه وارتضى برسوله وآمن بعقيدته؛ ففشِلت كل محاولات أهل النفاق والزيغ وكانت الغزوة فرصة عظيمة لتميز الأمة في مبادئها ولتمايزها في صفها، فأصبح المجتمع كالآتي:
1- أهل السبق والإيمان من المهاجرين والأنصار الذين تباروا في الخروج للغزو والتبرع لتجهيز إخوانهم الذين لا يملكون النفقة.
2- أهل الإيمان الذين قصرت بهم النفقة لفقرهم فلم يستطيعوا الخروج وهم البكاؤون ﴿... الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾.
3- أهل إيمان، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تخلفوا عن الخروج من غير شكٍ ولا ارتيابٍ منهم.
4- المنافقون أهل الزيغ والضلال الذين تعاونوا مع العدو وتجسسوا على أهل الإيمان، وقد رجع أكثرهم من الغزو واعتذر بعضهم عن الخروج مخافة الفتنة كما زعم، وخروج البعض منهم محاولين استغلال الفرص لاغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم-.

وهذه الغزوة مليئة بالدروس والعبر التي نحتاج إليها في طريق دعوتنا إلى الله ونستخلص منها بعض هذه العبر عسى الله أن ينفعنا بها ويتقبلها خالصة لوجهه الكريم:
1) الجهاد بالمال: كانت غزوة تبوك أروع مثل على الجهاد بالمال وبذله رخيصًا في سبيل الله، ولقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الجهاد بالمال وإنفاقه لوجه الله وحده؛ ولأن الصدقة برهان للإيمان فقد بدأت مظاهر الابتلاء والامتحان تظهِر سوءات المنافقين، ويتجلى بها صدق الصادقين وإيمان المؤمنين، فلقد استجاب المؤمنون لنداء رسولهم- صلى الله عليه وسلم-، وضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في بذلهم وعطائهم، فهذا عثمان بن عفان- رضي الله عنه- جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استرخصها- رضي الله عنه- وبذلها عندما لامست أذناه صيحات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصحابة: "مَن جهَّز جيش العسرة فله الجنة، من جهز جيش العسرة فله الجنة"، وأعظم به- وربَّي- من مهر، فطالما في سبيل دخولها ركعوا، ولطلبها دعوا وتضرعوا، حتى أكبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما فعل عثمان- رضي الله عنه- فقال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم".

وجاء أبو بكر بماله كله وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وأنفق ألفي درهم، وجاء العباس بمالٍ كثير، وتتابع الناس بصدقاتهم بعد ذلك، ورأى فقراء المسلمين ما بذل أغنياؤهم فاشتاقوا إلى أن يبذلوا ويدفعوا، ما اعتذروا بفقرهم، وما تذرعوا بضعفهم، بل قدموا جهدهم من النفقة على استحياء، فهذا أبو عقيل يأتي بنصف صاع من تمر.

وهناك آخرون قد بلغوا من الفقرِ غايته، فهم ضعفاء لا يملكون شيئًا، ولكنهم بذلوا ما بأيديهم، وقدموا ما بوسعهم، فهذا عُلبة بن زيد بن حارثة لم يجد ما يتصدق به فرفع يديه إلى ربه والله يعلم صدقها، فقال: "اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على مَن ناله من خلقك"، فعندما جاء الصباح أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مناديًا ينادي: "أين المتصدق بعرضه البارحة؟" فقام عُلبة فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد قبل صدقتك".

وجاءت النساء بما قدرن عليه من صدقاتٍ وحليٍّ وخلاخل وقروط وخواتم، وألقينه بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، آثروا جنة عرضها السموات والأرض على تجملهن وتحليهن.

ويأتي سبعة من صحابةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بينهم عُلبة الآنف ذكره ليطلبوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما يركبون عليه معه في هذه الغزوة، فلا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، فيهم قال الله قرآنًا يتلى: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة: 92).

وهذا هو حال المؤمن الصادق في استجابته لدعوة الله ورسوله، وهذا هو حاله وقت الشدة، فيظهر طيب معدنه ويُري الله عزَّ وجل من نفسه خيرًا.. لقد ضرب الصحابة من أنفسهم أروع الأمثلة في البذل في هذه الغزوة وأعطوا للأمةِ درسًا بليغًا في الجهاد بالمال وبذله في سبيل الله والانصياع التام لأوامر الله ورسوله وهكذا يجب أن نكون.

2) خطورة المنافقين: لقد أوضحت هذه الغزوة خطورة المنافقين على الأمةِ وعلى الصف؛ فهاهم يشقون الصفَّ بإشاعتهم رُوح الوهن والضعف والتخاذل في وقتٍ أشد ما يكون الصف احتياجًا فيه للوحدة والتكاتف.. فمنهم مَن يقول "لا تنفروا في الحر".. ﴿وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون﴾، وبعضهم يلمز ويسخر من المتصدقين والمنفقين على الجيش ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ومنهم مَن يقول ائذن لي ولا تفتني.. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)﴾ (التوبة)، ومنهم من بني مسجدًا ضرارًا.. ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ..﴾ بل ومنهم مَن حاول قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- ‏﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾.. وسنقف هنا على حدثين فقط مما فعله المنافقون لتبيان خطورتهم على الأمة.
أ) مسجد الضرار: بنى المنافقون بالمدينة مسجدًا ليجتمعوا فيه ويتآمروا على الإِسلام والإِضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، وقد زعموا أنهم بنوه توسعة للمسلمين ولابن السبيل والضعفاء والعاجزين، وطلبوا من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يصلي فيه، ليخدعوا الناس بهذا العمل.

بعد عودة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تبوك همَّ أن يُصلي في هذا المسجد، ولكن الله تعالى نهاه عنِ ذلك وكشف نوايا ومكر المنافقين وقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)﴾ (التوبة)، وبهذا كشف الله زيف وكذب المنافقين، ثم قام المسلمون بهدم وإحراق هذا المسجد.
ب) محاولة اغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم-: في طريق العودة من تبوك، وعند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود زمام ناقته، وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة، فبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك يقول الله- تعالى-:‏ ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ (‏‏‏التوبة‏: ‏74‏).

3) عدله- صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع المُخَلَّفين: كانت هذه الغزوة- لظروفها الخاصة بها- اختبارًا شديدًا من الله، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته عز وجل في مثل هذه المواطن، حيث يقول‏:‏ ‏﴿‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏﴾ ‏‏‏(آل عمران‏: ‏179)‏‏.

فقد خرج لهذه الغزوة كل مَن كان مؤمنًا صادقًا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلَّف وذكروه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لهم‏: "‏دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه" (رواه الحاكم في مستدركه)، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبًا، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسًا.. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلَّفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم.

المتخلفون كانوا ثلاثة أصناف:
الأول: هم الضعفاء والفقراء ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى تبوك وهؤلاء معذورون.. ﴿‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏﴾ (‏‏‏التوبة‏:‏ 91‏)‏. وقال فيهم رسول الله حين دنا من المدينة‏:‏ "‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ"‏، قـالوا‏:‏ يا رسول الله، وهــم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وهم بالمدينة".. (رواه البخاري).

الثاني: مؤمنون صادقون تخلفوا بدون عذرٍ واعترفوا بذلك وهم: (كعب بن مالك- هلال بن أمية- مرارة بن الربيع)- رضي الله عنهم- وقد أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- الناس بمقاطعتهم، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبعد خمسين يومًا تاب الله عليهم ونزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾ (التوبة).

الثالث: المنافقون الذين تخلفوا بدون عذر صادق وقد قبل منهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله.

ولما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون- وهم بضعة وثمانون رجلاً- فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.. فيعاتبه ربه بقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)﴾ (التوبة).

نجد أنه لم يتعامل- صلى الله عليه وسلم‏- مع المُخَلَّفين معاملةً واحدةً ولكنه تعامل مع كلِّ حالةٍ مع ما يناسبها وما يتناسب وطبيعة مرتكبها.. فالمؤمنين بخلاف المنافقين، ففي حين نجده- صلى الله عليه وسلم‏- يتعامل بمنتهى الحزم والشدة مع المنافقين نجده يتعامل بأسلوب مختلف مع المؤمنين؛ فنجده يعفو عن بعضهم ويرجئ الآخر لأمر الله ليقضي فيهم، وهو ما حدث مع الثلاثة الذين خُلِّفوا.. وهذا درسٌ من المصطفى للقادة في فنِّ التعامل مع الناس ومعاملة كل واحد بما يناسب فعله وبما يناسب وضعه وطبيعته ولا يترك الأمر على عواهنه ويعامل الجميع معاملة واحدة، كما لا يمكن إغفال فضل السبق والأعمال الصالحة في تقييمنا لأخطاءِ الآخرين حتى وإن كانت غير مبررة.

4) أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة: وكتب الله العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: 40).

5) أسلوب العدو في اسمتالة الصفوف المنافقة: ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾؛ لذلك يجب الحذر من المنافقين وليبحث كلنا منا في نفسه لئلا يكون فيه خصلة من نفاقٍ تكون بذرة تنبت وتترعرع في داخله وهو لا يدري، وقد تؤتى الأمة من قِبله في يومٍ من الأيام؛ لذلك كان من توجيه المصطفى لأصحابه الدعاء "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئًا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه".

6) لا يشترط فيها تكافؤ القوى في مواجهة الأعداء: يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، و يتعلقوا به، ويثبتوا، ويصبروا، وعندها يُنصروا بإذنه وحوله وقوته، فها هو سلفهم ابن رواحة يقول: "والله ما نقاتل الناس بعَددٍ، ولا عُدد، و ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به"، ففي معظم الغزوات والمعارك الإسلامية الكبرى لم ينتصر المسلمون عن قوةٍ ظاهرةٍ على العدو بقدر ما كانوا ينتصرون بقوةِ قربهم من الله وطاعتهم له؛ ولذلك كانت من وصاياهم لبعضهم "أننا لا نخشى عدونا بقدر ما نخشى ذنوبنا".

ولنا في ما يحدث في فلسطين ولبنان من موجهة المقاومة المسلحة بأسلحةٍ لا تُقارن بأسلحة العدو عددًا وعدة ولكنها تتفوق عليه بإيمانها بربها وصلتها به؛ لذلك هزمته وتهزمه وستستمر في هزيمته بإذن الله ما دمنا متمسكين بمنهجنا الإسلامي وصلتنا بربنا.

7) الإيجابية والتغلب على العوائق: لقد نفر الصحابة في إجابة داعي الله- كلٌّ على حسب طاقته ووسعه- ونضرب هنا بعض الأمثلة ممن تعاملوا بإيجابيةٍ مع الموقف، ومنهم موقف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه في المدينة على النساءِ والصبيان، ولكن لم يطق صبرًا فلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمره رسول الله بالرجوعِ وقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! غير أنه لا نبي بعدي".


وفي التغلب على العوائق يأتي مثل سيدنا أبو ذر حيث يبطئ به بعيره، فيأخذ متاعه ويحمله على ظهره ويلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يستبح لنفسه العذرَ للتخلفِ عن رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم-.

وهذا أبو خيثمة الأنصاري يصارع نفسه بين البقاءِ والخروج، فيدخل بستانًا له وقد رُش بالماء وزوجه فيه، فيقول: ما هذا بإنصافٍ، رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في السمومِ والحرورِ وأبو خيثمة في الظل والنعيم!! فلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففرح به ودعا له.. وهذا الموقف يُبيِّن لنا أن الصحابة كانوا يقاومون ويجاهدون أنفسهم وأهوائهم لتسلك طريق الحق وأنهم نماذج بشرية تُعاني مما نُعاني منه نحن في هذا العصر ولم يكونوا معصومين، لذا يسهل علينا الاقتداء بهم واتباعهم.

8) تنوع وسائل أعداء الله: فأعداء الله عبر العصور يطورون من وسائلهم لمحاربة الإسلام ويحاولون إيجاد ثغرة ينفذون منها للصفِّ المسلم لاختراقه وإضعافه، فنجد هنا أنهم أرسلوا لكعب بن مالك- رضي الله عنه-، يوم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بهجره أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكنَّ كعبًا المؤمن علم أنَّ هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة.. ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ﴾.

وهذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر، في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء ويترصدون، ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت!، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت!، أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب! قاوم وثبت على مبدئه ودينه ابتغاءَ وجه الله.

9) تأييد الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالمعجزات: في هذه الغزوة أيَّد الله سبحانه وتعالى نبيه بكثيرٍ من المعجزات، تثبيتًا للمؤمنين وتخفيفًا لمصابهم ولما لاقوه في هذه الغزوة من صعاب من بدايتها لنهايتها. ومن المعجزات التي شهدتها الغزوة:
إمطار السحاب ببركة دعائه: خرج المسلمون للغزو في جوٍّ شديد الحرارة، ولم يكن معهم ما يكفي من الماء، مما أدّى إلى شعورهم بالعطش الشديد، فانطلقوا يبحثون عن الماء من حولهم، لكنهم لم يجدوا له أثرًا، فاضطرَّ كثيرٌ منهم إلى ذبح راحلته وعصر أحشائها لاستخراج الماء الذي بداخلها، فلما رأى أبو بكر الصدّيق- رضي الله عنه- حال المؤمنين أسرع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: "رسول الله، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا "، فقال له: "أتحب ذلك؟"، قال: "نعم"، فرفع النبي- صلى الله عليه وسلم- يده إلى السماء، فما كاد أن يرجعهما حتى تجمَّع السحاب من كلِّ مكانٍ وأظلمت الدنيا، ثم هطل مطرٌ غزيرٌ، فارتوى الناس وسقوا أنعامهم، ومُلئت الأوعية التي كانت معهم، ولما غادروا المكان وجدوا أن تلك السحب لم تجاوز معسكرهم، والقصّة رواها ابن خزيمة في صحيحه.

إخباره بمكان ناقته التي ضلّت: في الطريق إلى تبوك نزل جيش المسلمين في مكانٍ للراحة، فافتقد النبي- صلى الله عليه وسلم- ناقته، وأرسل مَن يبحث عنها، ولمَّا لم يجدوها، قال أحد المنافقين: "أليس يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟"، فأوحى الله إلى نبيَّه بمقولة ذلك المنافق، فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأخبرهم الخبر، ثم قال: "إني والله لا أعلم إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني الله عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها"، فانطلق الصحابة إلى ذلك الموضع، فوجدوها وأتوه بها.

تكثير الماء في تبوك: في طريق الذهاب أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم– من معه أنهم سيصلون إلى عين ماءٍ في تبوك، وطلب منهم أن يتركوها على حالها ولا يمسُّوها، فلما وصلوا إلى تلك العين أسرع إليها رجلان واغترفا منها، فنقص ماؤها، ولما علم النبي- صلى الله عليه وسلم- غضب من فعلهما، ثم طلب من الصحابة أن يأتوه من ماء تلك العين، فغرفوا بأيديهم قليلاً حتى تجمَّع لديهم شيء يسير، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغسل به يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فسالت بماء غزير حتى ارتوى الناس، والتفت النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى معاذ بن جبل- رضي الله عنه- وقال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد مُلئ جنانًا" رواه مسلم، وكانت معجزةً عظيمةً تنبّأ فيها النبي- صلى الله عليه وسلم- بتحوِّل تلك المنطقة القاحلة إلى بساتين خضراء خلال فترةٍ وجيزة، وقد تحقَّق ما أخبر عنه- صلى الله عليه وسلم، وصارت منطقة تبوك معروفةً بوفرةِ أشجارها وكثرةِ ثمارها.

تكثير الطعام: أصاب الناس المجاعة نظرًا لقلة الزاد، وبعد المكان، فاستأذن بعض الصحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذبح الإبل والأكل منها، فأذن لهم، فجاء عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وبيَّن له أن ذلك سيتسبّب في قلّةِ الرواحل، واقترح عليه أن يأمر الناس بجمعِ ما لديهم من طعامٍ قليلٍ، ثم الدعاء له بالبركة، فكان الرجل يأتي بكفِّ التمر، وآخرُ يأتي بالكسرة، وثالثٌ بكفِّ الذرة، حتى اجتمع شيءٌ يسير، ودعا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يُبارك الله لهم في طعامهم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في المعسكر وعاءً إلا امتلأ، وأكلوا حتى شبعوا وبقيت زيادة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة" (رواه مسلم).

التنبّؤ بحال ملك كندة: حينما وصل المسلمون إلى تبوك لم يجدوا فيها أثرًا لجيوش الروم أو القبائل الموالية لها، فبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد- رضي الله عنه- إلى دومة الجندل، وأخبره بأنَّه سيجد زعيمها أكيدر بن عبد الملك وهو يصيد البقر، وفي تلك الليلة وقف أكيدر وزوجته على سطح القصر، فإذا بالبقر تقترب من القصر حتى لامست أبوابه بقرونها، فتعجَّب أكيدر مما رآه وقال لامرأته: "هل رأيت مثل هذا قط؟" قالت: "لا والله"، فنزل وهيَّأ فرسه، ثم خرج للصيد بصحبةِ أفرادٍ من أهل بيته، فرآه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقام بملاحقته، حتى استطاع أن يأسره، وقدم به على النبي- صلى الله عليه وسلم-، فصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله.

إخباره بالريح الشديدة: أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تبوك عن هبوب ريحٍ شديدة، وطلب من الناس أخذ الحيطة والحذر حتى لا تُصيبهم بأذى، وأمرهم بربط الدوابِّ وعدم الخروج في ذلك الوقت، ولما حلَّ الليل جاءت الريح، فقام رجلٌ من المسلمين من مكانه، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء، رواه مسلم.

إخباره عن موت أبي ذر: كان أبو ذرٍّ الغفاري- رضي الله عنه- ممّن تأخَّر عن الجيش في غزوة تبوك، ثم لحق به بعد ذلك، ولمَّا رآه النبي- صلى الله عليه وسلم- مقبلاً نحو الجيش يمشي وحده قال: "رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده"، ومضت سنين طويلة حتى جاءت خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فانتقل أبو ذر- رضي الله عنه- للعيش في منطقة "الربذة"، وعندما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه أن يقوموا بتغسيله وتكفينه ووضعه في طريقِ المسلمين عسى أن يمرَّ به مَن يقوم بدفنه، فأقبل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في جماعةٍ من أهل الكوفة، وما أن عرفه حتى بكى وتذكر النبوءة وقال: "صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"، ثم تولَّى دفنه بنفسه.

دعاؤه لرواحل المسلمين وتنبؤه بركوب أصحابه للسفن: في هذه الغزوة أُصيبت رواحل المسلمين بالإجهاد والتّعب، فشكا الصحابة ذلك إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-، ولما اقتربوا من مضيق وقف النبي- صلى الله عليه وسلم- على بابه وأمر المسلمين أن يمرُّوا من أمامه، وجعل ينفخ على ظهور الرواحل ويقول "اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف، وعلى الرطب واليابس، في البر والبحر"، فعاد النشاط إليها وانطلقت مسرعةً، حتى وجد الصحابة صعوبةً في السيطرة عليها.

وفي هذه الدعوة أيضًا إخبارٌ بأمر غيبيّ، وهو استخدام الصحابة للسفن في الغزو والجهاد، وقد أشار فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه إلى ذلك فقال: "فلما قدمنا الشام غزونا في البحر، فلما رأيت السفن وما يدخل فيها عرفت دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم-" رواه أحمد.