الخميس، 15 مايو 2008

فقه التوريث



بقلم : وليد شلبي
لا شك أن توريث أي فكر أو معتقَد أو عمل هو من أهم عوامل بقائه ونمائه وتطوره، وهو أيضًا من عوامل استقراره واستمراره، خاصةً في حالات الطوارئ والنوازل، كما أن فيه ضمانًا للمحافظة على ثوابت العمل وأهدافه الإستراتيجية.
وإن كان ذلك واجبًا على وجه العموم فهو من باب أولى يُعدُّ أوجبَ في حق العمل الإسلامي، وذلك لسموِّ أهداف هذا العمل وعظيم الثواب المنتظَر عليه من رب العالمين.

وأعني بـ(فقه التوريث) كيف يتم توارث الفكر والمعتقدات والعمل كله- بكامل ثوابته وأسسه وأهدافه- بين الأجيال المختلفة؟ وما الأسس الواجب اتباعها بين الموروث والوارث؟ وكيف نتجنَّب حدوثَ التباين غير الصحِّي بين الأجيال الدعوية؟ وكيف نشعر أن الدعوة أمانةٌ يجب توصيلها لمن بعدنا كاملةً غيرَ منقوصة؟ وكيف أنها- في ضوء ذلك- تصبح حقًا من حقوق الجيل الجديد وواجبًا على الجيل القديم؟

ليسَ منَّةً.. بل واجبٌ مشتَركٌ
إن التوريث ليس منَّةً من جيل على جيل؛ لكنه حقٌّ وواجب على كلا الطرفين:
فواجب على جيل السبق والخبرة أن يحتضن الجيل الجديد في حنوٍّ وعطفٍ، ويورثه ما منَّ الله به عليه من فضل، ويثق أنه يتقرب بذلك إلى الله، ويعذر إليه- سبحانه- بتوريثه ما فقِه لمن بعده من أجيال العمل؛ حتى لا يُصاب بشبهة (حبس العلم)، مراعيًا أنها أمانةٌ يجبُ عليه أداؤها، وسيحاسب إن قصر في هذا الأداء.

وواجب- في الوقت ذاته- على الجيل الجديد أن يعمل ويصبر ويصابر ويثابر في سبيل نيلِ هذا الحق، فلا ينتظِر أن يطرق الخير بابه دون جهد وعناء؛ بل عليه أن يبحث عن أهل الفضل وينهل منهم، ويتتلمذ على أيديهم في تواضع طالب العلم، وصبر المجاهد، وأن يستشعر أنها أمانةٌ هو محاسبٌ عليها إن لم يسعَ جاهدًا لنَيلها، ثم لم يؤدِّ حقَّها بعد نيلها.. فليكن- إذن- شعار الطرفين القاعدة القرآنية العظيمة: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: من الآية2).

أهميتُه والحاجةُ إليه:
إن حاجتنا لـ(فقه التوريث) لا تقل عن حاجتنا لنشر الدعوة؛ إذ إن الوارثين للفهم السليم والعمل المنتج الفعَّال، هم الذين سينشرون الدعوة ويتحمَّلون التبعات والصعاب في سبيل صيانة وحفظ ما ورثوه، وهم الذين سيتحمَّلون كل تبعات العمل تقربًا إلى الله- سبحانه- فإذا أُحسنتْ تربيتهم على (فقه التوريث) فسوف يحسنون العمل للدين، ويحسنون نشره، وتحمل مسئولياته.

كما أن في اتباعنا (فقه التوريث) ضمانًا لاستمرار العمل وتطوره، ودفع دماء جديدة في شرايينه، كما أن في الدمج بين خبرة الشيوخ وحماسة الشباب في مختلف مجالات العمل إثراءً للعمل وتطوره وعدم جموده، وتواصلاً بين خبرات العمل المختلفة.

نموذجٌ للتوريث:
تعتبر القدوة من أهم وسائل التوريث العملي، ومن أهم عوامل بقاء وتطور العمل، ولقد كان الإمام "حسن البنَّا"- يرحمه الله- من الفراسة والحكمة بحيث اهتم بجانب التوريث العملي للدعوة، فاهتم ببناء وتنشئة الرجال وتوريثهم فهمه للإسلام، كما بثَّ فيهم روح العزيمة وعلوَّ الهمة لتحقيق أهدافهم، وربَّاهم على أسس الفهم السليم للإسلام، متبعًا منهج المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فأنشأ جيلاً فريدًا من الدعاة أعاد للأذهان صورة الأجيال الأولى من الصحابة والتابعين.

فالإمام لم يكتفِ- كبعض من سبقوه- بالانكفاء على كتابة الكُتب والتدوين، لكنَّه عمد إلى تأليف الرجال، وصياغة الأرواح، فانطلقوا ناشرين للإسلامَ في بقاع الأرض بمختلف الوسائل.. كتابةً ووعظًا وعملاً وحركةً وقدوةً، فكان الجيل الذي رباه "البنَّا" كُتبًا ناطقة ومتحركةً على الأرض، يعلِّمون الناس مما علمهم الله، وفي الوقت ذاته، يورثون الفهم الصحيح والعمل الدعوي المستنير لمن هداه الله لهذا الطريق.

شهادةُ للتَّاريخ
وعن تأثير ودور هذا الجيل في المجتمع يقول الدكتور "أحمد شلبي"- يرحمه الله-: "أدَّت هذه الجماعة (الإخوان المسلمون) دورًا إسلاميًّا رائعًا في حياة الصبيان والشباب والرجال، وغرست أخلاق الإسلام في الملايين، وجعلت الانتساب للإسلام مفخرةً يعتزُّ بها الكثيرون، وربطت بين جماعات المسلمين في مختلف الأنحاء، وكوَّنت من المسلمين قوةً هائلةً هزَّت غطرسة الاستعمار وقُوى الغرب وطلائع الصهيونية، ودفعت إلى المكاتب والمصانع والوظائف جماعات تعرف الله وتخافه، وبالتالي تنتج بجدٍّ، وتعمل دون رقيب من الناس، ولا تمتد لها الشبهات، ولا يمسها انحراف، وكانت كلمة (الإخوان المسلمون) طابعًا للتنزه عن الصغائر، والبعد عن الرشوة والإهمال، ومؤشرًا للحرص على أداء الواجب". (موسوعة التاريخ الإسلامي، الجزء:9).

ولكل أمَانة تبِعات:
فهذا تأثير (فقه التوريث) العملي في المجتمع والأمة كلها، وإن الجيل الأول من الدعاة الذي تربى على يد الإمام "البنَّا" ورفاقه لهو كنزٌ حقيقيٌّ للعمل الإسلامي كله، وعلى جميع العاملين للإسلام أن ينهلوا منه ويتوارثوه، ولا أقول "الإخوان فقط" ذلك أن دعوة (الإخوان المسلمون) أضحت من المكانة في النفوس والانتشار والتأثير بمكان ينبغي معه ألا تقتصر على فئة من العاملين للإسلام دون أخرى، حتى لو كانوا هم (الإخوان) أنفسهم، فجماعة (الإخوان) دعوةٌ عالميةٌ وملكٌ للأمة، وهي لا تنتصر لنفسها قط، لكنها تنتصر لله، فالله- تعالى- هو غايتها.

كما أن جماعة (الإخوان) منذ نشأتها وحتى يومنا هذا تمدُّ يدها لجميع العاملين للإسلام؛ للتعاون في نقاط الاتفاق الكثيرة التي تجمعهم؛ بل تعدَّى الأمر ذلك حتى إنهم ليمدون أيديهم لمن بغى عليهم، محتسبين ما تعرَّضوا له من ويلات عند الله؛ ابتغاءً لمرضاته- سبحانه- عاملين في جدٍّ واجتهاد لتوريث وتبليغ الدعوة للأجيال القادمة، متعالين على جراحهم وما أصابهم من أذًى في سبيل الله، ولاشك أن توريث الدعوة والعمل يستحق أن نضحي في سبيله بجراحاتنا وآلامنا، وليكن شعارنا في ذلك وصية الحبيب- صلى الله عليه وسلم-: "فوالله لأنْ يُهدَي الله بكَ رجلٌ واحدٌ خيرٌ لك مِن حُمُر النَّعم" (رواه البخاري).

ما يجبُ أن تَرثه الأجيالُ:
إننا نريد أجيالاً تحمل الراية.. قويةً في عزم، أمينةً في حسم، مجاهدةً في صبر، ومخلصةً في سبيل الله، على أن يسلِّم كل جيل منهم لمن بعده الأمانة كاملةً غير منقوصة، وعلى القيادة الواعية أن تؤصل وتجذِّر (فقه التوريث) بين أفرادها، وأن تُزيل الفوارق الشخصية- غير المعتبرة شرعًا- من النفوس دون الإخلال بمبدأ معرفة الفضل وإنزال الناس منازلهم، متمثلةً في ذلك بقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ليسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرحَمْ صَغيرنَا، ولمْ يُوَقِّر كَبيرنا" (رواه الترمذي بسند صحيح).

إلا أنني ألفت النظر لشيءٍ من الأهمية بمكان، وهو أننا علينا أن نورِّث المرجعيات الشرعية للعمل قبل توريثنا للأفكار والمعتقدات الفكرية، فالعمل الإسلامي كله قائم لوجه الله وابتغاء مرضاته، كذلك يجب أن نرسخ المعاني الإسلامية العظيمة- كالإخلاص لله والتجرد له، والأخوة، والشورى، وقوة الإرادة، والتضحية والجهاد والثبات- في النفوس لتتوارثها الأجيال الدعوية.. إن دور (فقه التَّوريث) في المنظومة الحركية للعمل غاية في الأهمية، ويحتاج إلى جهدٍ لترسيخه في النفوس.

فإذا تحقق التَّوريث استُغِلت الطاقات، وتواصلت الأجيال، واتَّحدت الخبرات، وتوحَّدت الصفوف، وزاد الشعور بالانتماء، وبأهمية الدور والهدف، وهو ما يؤدي إلى ازدهار العمل ونمائه.

ليست هناك تعليقات: