الجمعة، 16 مايو 2008

وقفات مع غزوة تبوك



بقلم: وليد شلبي*
تعد غزوة تبوك من أهم الغزوات في تاريخ الإسلام على المستوى الخارجي والداخلي للدولة الإسلامية الوليدة. فتم فيها الردع لدولة عظمى في ذلك الوقت، كما تمَّ فيها الكشف عن العناصر المنافقة المثبطة للمؤمنين وكشفهم وفضحهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم الدين. فتم بعدها استقرار الدولة وبسط هيبتها ومكانتها على مختلف المستويات. وكما يقول الشاعر:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العــبر ضل قوم ليس يدرون الخـبر
فنحن حين نتدارس سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إنما يكون للعبرة والاتعاظ والاقتداء ونحاول هنا أن نقف بعض الوقفات مع غزوة تبوك لاستخلاص بعض الدروس المستفادة منها.

لماذا سميت بغزوة العسرة؟
لقد مرت غزوة تبوك والتي وقعت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة بالكثير من الصعاب التي جعلت المؤرخين يطلقون عليها غزوة العسرة ومن هذه الصعوبات، صعوبة التمويل اللازم لتجهيز الجيش، وقد حثَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- المسلمين للتبرع لتجهيز الجيش وحضهم على ذلك، وتسابق المسلمون في الجهاد بأموالهم، فها هو أبو بكر الصديق يأتي بكل ماله، وعمر بن الخطاب يأتي بنصف ماله، وتبارى القوم في التبرع في صورة تُظهر ما في قلوبهم من إيمان راسخ ونفوس سخية، ولم ينفق أحد أعظم نفقة من ذي النورين عثمان بن عفان الذي جهَّز ثلث الجيش وحده، حتى قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في حقِّه: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" قالها مرارًا.

كما مثلت شدة الحر والشمس المحرقة وقلة الماء صعوبة أخرى؛ حيث كان يؤدي إلى عسر المسير ومشقة الانتقال، وقد صوَّر القرآن لنا هذا الأمر: ﴿وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾.. كما أن ثمارهم قد أينعت وحان وقت قطافها مما سبب عبأ آخر عليهم.في حين مثلت طول المسافة من المدينة إلى تبوك - والتي تبلغ أكثر من تسعمائة كيلومتر، والرحلة تستغرق شهرًا ذهابًا وإيابًا- صعوبة لا يمكن إغفالها. ولو أضفنا لها شدة بأس العدو، فالعدو هو الروم إحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، فأعدادهم عظيمة، وأسلحتهم كثيرة، وجيوشهم جرارة، لعلمنا مدى الشدة التي عانى منها المسلمون ومدى الصعوبة التي واجهوها.

ولعل الدرس المستفاد هنا أنه ومع هذه العقبات، فقد سارع المسلمون بقيادة النبي- صلى الله عليه وسلم- بالتجهز والخروج والتبرع بأموالهم لسد العجز في التمويل؛ إيمانًا منهم بقدسية الغاية وربانية الهدف.

ويكفي أن نعلم أنه لطول المسافة تحتم أن يكون الجيش من الفرسان وراكبي الإبل، وبعد التجهز خرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقود جيشًا قوامه أكثر من 30 ألفًا من المسلمين ما بين 10 آلاف فارس وبقية الجيش يتعاقب كل ثلاثة على بعير واحد.

خريطة المجتمع المسلم قبل الغزوة
لقد عانى الصف الإسلامي قبل الخروج من إرجاف المنافقين ومحاولتهم الدنيئة تثبيط همة المسلمين وشق صفهم وبذر الوهن في قلوبهم، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك في صف ارتبط بخالقه وارتضى برسوله وآمن بعقيدته؛ ففشِلت كل محاولات أهل النفاق والزيغ وكانت الغزوة فرصة عظيمة لتميز الأمة في مبادئها ولتمايزها في صفها، فأصبح المجتمع كالآتي:
1- أهل السبق والإيمان من المهاجرين والأنصار الذين تباروا في الخروج للغزو والتبرع لتجهيز إخوانهم الذين لا يملكون النفقة.
2- أهل الإيمان الذين قصرت بهم النفقة لفقرهم فلم يستطيعوا الخروج وهم البكاؤون ﴿... الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾.
3- أهل إيمان، ولكن أبطأت بهم النية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى تخلفوا عن الخروج من غير شكٍ ولا ارتيابٍ منهم.
4- المنافقون أهل الزيغ والضلال الذين تعاونوا مع العدو وتجسسوا على أهل الإيمان، وقد رجع أكثرهم من الغزو واعتذر بعضهم عن الخروج مخافة الفتنة كما زعم، وخروج البعض منهم محاولين استغلال الفرص لاغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم-.

وهذه الغزوة مليئة بالدروس والعبر التي نحتاج إليها في طريق دعوتنا إلى الله ونستخلص منها بعض هذه العبر عسى الله أن ينفعنا بها ويتقبلها خالصة لوجهه الكريم:
1) الجهاد بالمال: كانت غزوة تبوك أروع مثل على الجهاد بالمال وبذله رخيصًا في سبيل الله، ولقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في الجهاد بالمال وإنفاقه لوجه الله وحده؛ ولأن الصدقة برهان للإيمان فقد بدأت مظاهر الابتلاء والامتحان تظهِر سوءات المنافقين، ويتجلى بها صدق الصادقين وإيمان المؤمنين، فلقد استجاب المؤمنون لنداء رسولهم- صلى الله عليه وسلم-، وضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في بذلهم وعطائهم، فهذا عثمان بن عفان- رضي الله عنه- جاء بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وبألف دينار استرخصها- رضي الله عنه- وبذلها عندما لامست أذناه صيحات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصحابة: "مَن جهَّز جيش العسرة فله الجنة، من جهز جيش العسرة فله الجنة"، وأعظم به- وربَّي- من مهر، فطالما في سبيل دخولها ركعوا، ولطلبها دعوا وتضرعوا، حتى أكبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما فعل عثمان- رضي الله عنه- فقال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم".

وجاء أبو بكر بماله كله وكان أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله وأنفق ألفي درهم، وجاء العباس بمالٍ كثير، وتتابع الناس بصدقاتهم بعد ذلك، ورأى فقراء المسلمين ما بذل أغنياؤهم فاشتاقوا إلى أن يبذلوا ويدفعوا، ما اعتذروا بفقرهم، وما تذرعوا بضعفهم، بل قدموا جهدهم من النفقة على استحياء، فهذا أبو عقيل يأتي بنصف صاع من تمر.

وهناك آخرون قد بلغوا من الفقرِ غايته، فهم ضعفاء لا يملكون شيئًا، ولكنهم بذلوا ما بأيديهم، وقدموا ما بوسعهم، فهذا عُلبة بن زيد بن حارثة لم يجد ما يتصدق به فرفع يديه إلى ربه والله يعلم صدقها، فقال: "اللهم إنه ليس عندي مال أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على مَن ناله من خلقك"، فعندما جاء الصباح أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مناديًا ينادي: "أين المتصدق بعرضه البارحة؟" فقام عُلبة فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد قبل صدقتك".

وجاءت النساء بما قدرن عليه من صدقاتٍ وحليٍّ وخلاخل وقروط وخواتم، وألقينه بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، آثروا جنة عرضها السموات والأرض على تجملهن وتحليهن.

ويأتي سبعة من صحابةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من بينهم عُلبة الآنف ذكره ليطلبوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما يركبون عليه معه في هذه الغزوة، فلا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون، فيهم قال الله قرآنًا يتلى: ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾ (التوبة: 92).

وهذا هو حال المؤمن الصادق في استجابته لدعوة الله ورسوله، وهذا هو حاله وقت الشدة، فيظهر طيب معدنه ويُري الله عزَّ وجل من نفسه خيرًا.. لقد ضرب الصحابة من أنفسهم أروع الأمثلة في البذل في هذه الغزوة وأعطوا للأمةِ درسًا بليغًا في الجهاد بالمال وبذله في سبيل الله والانصياع التام لأوامر الله ورسوله وهكذا يجب أن نكون.

2) خطورة المنافقين: لقد أوضحت هذه الغزوة خطورة المنافقين على الأمةِ وعلى الصف؛ فهاهم يشقون الصفَّ بإشاعتهم رُوح الوهن والضعف والتخاذل في وقتٍ أشد ما يكون الصف احتياجًا فيه للوحدة والتكاتف.. فمنهم مَن يقول "لا تنفروا في الحر".. ﴿وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون﴾، وبعضهم يلمز ويسخر من المتصدقين والمنفقين على الجيش ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، ومنهم مَن يقول ائذن لي ولا تفتني.. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)﴾ (التوبة)، ومنهم من بني مسجدًا ضرارًا.. ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ..﴾ بل ومنهم مَن حاول قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- ‏﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾.. وسنقف هنا على حدثين فقط مما فعله المنافقون لتبيان خطورتهم على الأمة.
أ) مسجد الضرار: بنى المنافقون بالمدينة مسجدًا ليجتمعوا فيه ويتآمروا على الإِسلام والإِضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، وقد زعموا أنهم بنوه توسعة للمسلمين ولابن السبيل والضعفاء والعاجزين، وطلبوا من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يصلي فيه، ليخدعوا الناس بهذا العمل.

بعد عودة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تبوك همَّ أن يُصلي في هذا المسجد، ولكن الله تعالى نهاه عنِ ذلك وكشف نوايا ومكر المنافقين وقال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)﴾ (التوبة)، وبهذا كشف الله زيف وكذب المنافقين، ثم قام المسلمون بهدم وإحراق هذا المسجد.
ب) محاولة اغتيال النبي- صلى الله عليه وسلم-: في طريق العودة من تبوك، وعند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود زمام ناقته، وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة، فبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمي بصاحب سـر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك يقول الله- تعالى-:‏ ﴿وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ (‏‏‏التوبة‏: ‏74‏).

3) عدله- صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع المُخَلَّفين: كانت هذه الغزوة- لظروفها الخاصة بها- اختبارًا شديدًا من الله، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته عز وجل في مثل هذه المواطن، حيث يقول‏:‏ ‏﴿‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏﴾ ‏‏‏(آل عمران‏: ‏179)‏‏.

فقد خرج لهذه الغزوة كل مَن كان مؤمنًا صادقًا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلَّف وذكروه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لهم‏: "‏دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه" (رواه الحاكم في مستدركه)، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبًا، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسًا.. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلَّفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم.

المتخلفون كانوا ثلاثة أصناف:
الأول: هم الضعفاء والفقراء ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى تبوك وهؤلاء معذورون.. ﴿‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏﴾ (‏‏‏التوبة‏:‏ 91‏)‏. وقال فيهم رسول الله حين دنا من المدينة‏:‏ "‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ"‏، قـالوا‏:‏ يا رسول الله، وهــم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وهم بالمدينة".. (رواه البخاري).

الثاني: مؤمنون صادقون تخلفوا بدون عذرٍ واعترفوا بذلك وهم: (كعب بن مالك- هلال بن أمية- مرارة بن الربيع)- رضي الله عنهم- وقد أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- الناس بمقاطعتهم، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبعد خمسين يومًا تاب الله عليهم ونزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾ (التوبة).

الثالث: المنافقون الذين تخلفوا بدون عذر صادق وقد قبل منهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله.

ولما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون- وهم بضعة وثمانون رجلاً- فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.. فيعاتبه ربه بقوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)﴾ (التوبة).

نجد أنه لم يتعامل- صلى الله عليه وسلم‏- مع المُخَلَّفين معاملةً واحدةً ولكنه تعامل مع كلِّ حالةٍ مع ما يناسبها وما يتناسب وطبيعة مرتكبها.. فالمؤمنين بخلاف المنافقين، ففي حين نجده- صلى الله عليه وسلم‏- يتعامل بمنتهى الحزم والشدة مع المنافقين نجده يتعامل بأسلوب مختلف مع المؤمنين؛ فنجده يعفو عن بعضهم ويرجئ الآخر لأمر الله ليقضي فيهم، وهو ما حدث مع الثلاثة الذين خُلِّفوا.. وهذا درسٌ من المصطفى للقادة في فنِّ التعامل مع الناس ومعاملة كل واحد بما يناسب فعله وبما يناسب وضعه وطبيعته ولا يترك الأمر على عواهنه ويعامل الجميع معاملة واحدة، كما لا يمكن إغفال فضل السبق والأعمال الصالحة في تقييمنا لأخطاءِ الآخرين حتى وإن كانت غير مبررة.

4) أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة: وكتب الله العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: 40).

5) أسلوب العدو في اسمتالة الصفوف المنافقة: ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾؛ لذلك يجب الحذر من المنافقين وليبحث كلنا منا في نفسه لئلا يكون فيه خصلة من نفاقٍ تكون بذرة تنبت وتترعرع في داخله وهو لا يدري، وقد تؤتى الأمة من قِبله في يومٍ من الأيام؛ لذلك كان من توجيه المصطفى لأصحابه الدعاء "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئًا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه".

6) لا يشترط فيها تكافؤ القوى في مواجهة الأعداء: يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، و يتعلقوا به، ويثبتوا، ويصبروا، وعندها يُنصروا بإذنه وحوله وقوته، فها هو سلفهم ابن رواحة يقول: "والله ما نقاتل الناس بعَددٍ، ولا عُدد، و ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به"، ففي معظم الغزوات والمعارك الإسلامية الكبرى لم ينتصر المسلمون عن قوةٍ ظاهرةٍ على العدو بقدر ما كانوا ينتصرون بقوةِ قربهم من الله وطاعتهم له؛ ولذلك كانت من وصاياهم لبعضهم "أننا لا نخشى عدونا بقدر ما نخشى ذنوبنا".

ولنا في ما يحدث في فلسطين ولبنان من موجهة المقاومة المسلحة بأسلحةٍ لا تُقارن بأسلحة العدو عددًا وعدة ولكنها تتفوق عليه بإيمانها بربها وصلتها به؛ لذلك هزمته وتهزمه وستستمر في هزيمته بإذن الله ما دمنا متمسكين بمنهجنا الإسلامي وصلتنا بربنا.

7) الإيجابية والتغلب على العوائق: لقد نفر الصحابة في إجابة داعي الله- كلٌّ على حسب طاقته ووسعه- ونضرب هنا بعض الأمثلة ممن تعاملوا بإيجابيةٍ مع الموقف، ومنهم موقف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه في المدينة على النساءِ والصبيان، ولكن لم يطق صبرًا فلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمره رسول الله بالرجوعِ وقال له: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! غير أنه لا نبي بعدي".


وفي التغلب على العوائق يأتي مثل سيدنا أبو ذر حيث يبطئ به بعيره، فيأخذ متاعه ويحمله على ظهره ويلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يستبح لنفسه العذرَ للتخلفِ عن رسولِ الله- صلى الله عليه وسلم-.

وهذا أبو خيثمة الأنصاري يصارع نفسه بين البقاءِ والخروج، فيدخل بستانًا له وقد رُش بالماء وزوجه فيه، فيقول: ما هذا بإنصافٍ، رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في السمومِ والحرورِ وأبو خيثمة في الظل والنعيم!! فلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ففرح به ودعا له.. وهذا الموقف يُبيِّن لنا أن الصحابة كانوا يقاومون ويجاهدون أنفسهم وأهوائهم لتسلك طريق الحق وأنهم نماذج بشرية تُعاني مما نُعاني منه نحن في هذا العصر ولم يكونوا معصومين، لذا يسهل علينا الاقتداء بهم واتباعهم.

8) تنوع وسائل أعداء الله: فأعداء الله عبر العصور يطورون من وسائلهم لمحاربة الإسلام ويحاولون إيجاد ثغرة ينفذون منها للصفِّ المسلم لاختراقه وإضعافه، فنجد هنا أنهم أرسلوا لكعب بن مالك- رضي الله عنه-، يوم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بهجره أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكنَّ كعبًا المؤمن علم أنَّ هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة.. ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ﴾.

وهذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر، في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء ويترصدون، ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت!، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت!، أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب! قاوم وثبت على مبدئه ودينه ابتغاءَ وجه الله.

9) تأييد الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- بالمعجزات: في هذه الغزوة أيَّد الله سبحانه وتعالى نبيه بكثيرٍ من المعجزات، تثبيتًا للمؤمنين وتخفيفًا لمصابهم ولما لاقوه في هذه الغزوة من صعاب من بدايتها لنهايتها. ومن المعجزات التي شهدتها الغزوة:
إمطار السحاب ببركة دعائه: خرج المسلمون للغزو في جوٍّ شديد الحرارة، ولم يكن معهم ما يكفي من الماء، مما أدّى إلى شعورهم بالعطش الشديد، فانطلقوا يبحثون عن الماء من حولهم، لكنهم لم يجدوا له أثرًا، فاضطرَّ كثيرٌ منهم إلى ذبح راحلته وعصر أحشائها لاستخراج الماء الذي بداخلها، فلما رأى أبو بكر الصدّيق- رضي الله عنه- حال المؤمنين أسرع إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال: "رسول الله، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا "، فقال له: "أتحب ذلك؟"، قال: "نعم"، فرفع النبي- صلى الله عليه وسلم- يده إلى السماء، فما كاد أن يرجعهما حتى تجمَّع السحاب من كلِّ مكانٍ وأظلمت الدنيا، ثم هطل مطرٌ غزيرٌ، فارتوى الناس وسقوا أنعامهم، ومُلئت الأوعية التي كانت معهم، ولما غادروا المكان وجدوا أن تلك السحب لم تجاوز معسكرهم، والقصّة رواها ابن خزيمة في صحيحه.

إخباره بمكان ناقته التي ضلّت: في الطريق إلى تبوك نزل جيش المسلمين في مكانٍ للراحة، فافتقد النبي- صلى الله عليه وسلم- ناقته، وأرسل مَن يبحث عنها، ولمَّا لم يجدوها، قال أحد المنافقين: "أليس يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟"، فأوحى الله إلى نبيَّه بمقولة ذلك المنافق، فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأخبرهم الخبر، ثم قال: "إني والله لا أعلم إلا ما علَّمني الله، وقد دلَّني الله عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها"، فانطلق الصحابة إلى ذلك الموضع، فوجدوها وأتوه بها.

تكثير الماء في تبوك: في طريق الذهاب أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم– من معه أنهم سيصلون إلى عين ماءٍ في تبوك، وطلب منهم أن يتركوها على حالها ولا يمسُّوها، فلما وصلوا إلى تلك العين أسرع إليها رجلان واغترفا منها، فنقص ماؤها، ولما علم النبي- صلى الله عليه وسلم- غضب من فعلهما، ثم طلب من الصحابة أن يأتوه من ماء تلك العين، فغرفوا بأيديهم قليلاً حتى تجمَّع لديهم شيء يسير، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وغسل به يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فسالت بماء غزير حتى ارتوى الناس، والتفت النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى معاذ بن جبل- رضي الله عنه- وقال: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد مُلئ جنانًا" رواه مسلم، وكانت معجزةً عظيمةً تنبّأ فيها النبي- صلى الله عليه وسلم- بتحوِّل تلك المنطقة القاحلة إلى بساتين خضراء خلال فترةٍ وجيزة، وقد تحقَّق ما أخبر عنه- صلى الله عليه وسلم، وصارت منطقة تبوك معروفةً بوفرةِ أشجارها وكثرةِ ثمارها.

تكثير الطعام: أصاب الناس المجاعة نظرًا لقلة الزاد، وبعد المكان، فاستأذن بعض الصحابة النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذبح الإبل والأكل منها، فأذن لهم، فجاء عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وبيَّن له أن ذلك سيتسبّب في قلّةِ الرواحل، واقترح عليه أن يأمر الناس بجمعِ ما لديهم من طعامٍ قليلٍ، ثم الدعاء له بالبركة، فكان الرجل يأتي بكفِّ التمر، وآخرُ يأتي بالكسرة، وثالثٌ بكفِّ الذرة، حتى اجتمع شيءٌ يسير، ودعا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يُبارك الله لهم في طعامهم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في المعسكر وعاءً إلا امتلأ، وأكلوا حتى شبعوا وبقيت زيادة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة" (رواه مسلم).

التنبّؤ بحال ملك كندة: حينما وصل المسلمون إلى تبوك لم يجدوا فيها أثرًا لجيوش الروم أو القبائل الموالية لها، فبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد- رضي الله عنه- إلى دومة الجندل، وأخبره بأنَّه سيجد زعيمها أكيدر بن عبد الملك وهو يصيد البقر، وفي تلك الليلة وقف أكيدر وزوجته على سطح القصر، فإذا بالبقر تقترب من القصر حتى لامست أبوابه بقرونها، فتعجَّب أكيدر مما رآه وقال لامرأته: "هل رأيت مثل هذا قط؟" قالت: "لا والله"، فنزل وهيَّأ فرسه، ثم خرج للصيد بصحبةِ أفرادٍ من أهل بيته، فرآه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقام بملاحقته، حتى استطاع أن يأسره، وقدم به على النبي- صلى الله عليه وسلم-، فصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله.

إخباره بالريح الشديدة: أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تبوك عن هبوب ريحٍ شديدة، وطلب من الناس أخذ الحيطة والحذر حتى لا تُصيبهم بأذى، وأمرهم بربط الدوابِّ وعدم الخروج في ذلك الوقت، ولما حلَّ الليل جاءت الريح، فقام رجلٌ من المسلمين من مكانه، فحملته الريح حتى ألقته بجبل طيء، رواه مسلم.

إخباره عن موت أبي ذر: كان أبو ذرٍّ الغفاري- رضي الله عنه- ممّن تأخَّر عن الجيش في غزوة تبوك، ثم لحق به بعد ذلك، ولمَّا رآه النبي- صلى الله عليه وسلم- مقبلاً نحو الجيش يمشي وحده قال: "رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده"، ومضت سنين طويلة حتى جاءت خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فانتقل أبو ذر- رضي الله عنه- للعيش في منطقة "الربذة"، وعندما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه أن يقوموا بتغسيله وتكفينه ووضعه في طريقِ المسلمين عسى أن يمرَّ به مَن يقوم بدفنه، فأقبل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- في جماعةٍ من أهل الكوفة، وما أن عرفه حتى بكى وتذكر النبوءة وقال: "صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"، ثم تولَّى دفنه بنفسه.

دعاؤه لرواحل المسلمين وتنبؤه بركوب أصحابه للسفن: في هذه الغزوة أُصيبت رواحل المسلمين بالإجهاد والتّعب، فشكا الصحابة ذلك إلى النبي- صلى الله عليه وسلم-، ولما اقتربوا من مضيق وقف النبي- صلى الله عليه وسلم- على بابه وأمر المسلمين أن يمرُّوا من أمامه، وجعل ينفخ على ظهور الرواحل ويقول "اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف، وعلى الرطب واليابس، في البر والبحر"، فعاد النشاط إليها وانطلقت مسرعةً، حتى وجد الصحابة صعوبةً في السيطرة عليها.

وفي هذه الدعوة أيضًا إخبارٌ بأمر غيبيّ، وهو استخدام الصحابة للسفن في الغزو والجهاد، وقد أشار فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه إلى ذلك فقال: "فلما قدمنا الشام غزونا في البحر، فلما رأيت السفن وما يدخل فيها عرفت دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم-" رواه أحمد.

ليست هناك تعليقات: